رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


اللحظات الأخيرة

مع أننا أبناء علم ومدنية، نحفظ منذ نعومة أظفارنا (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك) إلا أننا، مرارا وتكرارا، سمحنا للوقت بأن يقطعنا إربا، إربا، وللفوضى أن تنهشنا خبط عشواء لأننا تركنا اللحظات الأخيرة تدفع بنا إلى سباق مع نهاية العالم.
ها نحن على أبواب إجازة الصيف يستبد بنا القلق إذ لم نحدد بعد وجهة سفرنا؟ وبالتالي لم نقم بحجوزات الطيران أو السكن، كما سنكتشف – لاحقا – أن جوازات سفرنا، أو بعضها، منتهية الصلاحية، وإذا نحن تجاوزنا كل ذلك فقد نكتشف، أننا لم نستخرج تأشيرة خروج وعودة لعاملتنا المنزلية.. وهكذا دواليك، نركض في سباق لقفز الحواجز لنصل للمطار متأخرين عن موعد الرحلة لأن حقائبنا لم تكن معدة أو أننا تذكرنا الاستحمام في تلك اللحظات أو فقدنا بعض وثائق السفر فقلبنا عالي بيوتنا سافلها .. وعند الرمق الأخير وبحرج شديد، وأنفاس متقطعة وعرق يتصبب ونداءات متداخلة نتناثر في جوف الطائرة مكدودين على مقاعدها إذا حالفنا التوفيق!!
هذا السيناريو يكاد يكون سمة تلاحقنا في كل شأن نريد إنجازه.. ففي مناسباتنا الاجتماعية من حفلات زفاف أو (عزايم) يتسارع إيقاعنا فقط في اللحظات الأخيرة: نرسل السائق على عجل بقوائم لسوق الخضار والسوبر ماركت، وإحضار أطباق من هذا البيت أو ذاك.. كما قد نكتشف أيضا أننا لم نستأجر بعد صالة الحفل أو بيت الزفاف، وفي اللحظات الأخيرة أيضا نهرش رؤوسنا لنستجمع أسماء الأصدقاء والمعارف لنخط لهم بطاقات الدعوة، نستجدي الأولاد، نستنجد بالمعارف، كي يقوموا بتوزيعها على البيوت.. ودعك من شجار العائلة حول أمور شتى مثل فساتين البنات أو رغبات الأبناء في شراء ثياب على أعتاب ساعات مجيء المدعوين، هذا إذا لم يكن الذهاب للحلاق قد حان موعده الآن!!
وإذا شئتم سلوكا مستداما لا نفرط فيه طوال العام، فدونكم انهمارنا زرافات ووحدانا ليلة الإعلان عن رؤية هلال رمضان إلى مخازن المواد الغذائية والأسواق، كما نفعل الشيء نفسه ليلة العيد مهرولين لتدارك ما فاتنا من ملابس الأولاد وهداياهم ومثلها مع المكتبات ليلة ما قبل افتتاح المدارس إذ ننكب مع أطفالنا لنخطف لوازمهم المدرسية فضلا عن أنها لا تشحذ قوانا العقلية لتسجيل أبنائنا في المدارس إلا قبيل بدء العام الدراسي بأيام!!
على نحو آخر.. نهرع لالتقاط حوائجنا فقط لحظة إغلاق المحال أبوابها للصلاة، ونذهب لعيادة مريض يرقد في المستشفى بعد خروجه أو لعزاء بعد اليوم الثالث، مثلما نقوم بتأجيل سداد فواتير الهاتف والماء والكهرباء لما بعد الإنذار أو بعد فصل الخدمة ودفع الغرامات، وقل مثل ذلك في استخراج وثائقنا الرسمية من رخص وشهادات وجوازات ونحوها.
أما دقة مواعيدنا فدونكم طلب زوجتك، أو أحد أبنائك، أو أصدقائك أخذه من مكان في موعد محدد.. ها أنت الآن في جلسة عامرة، غاطس في الضحك والثرثرة، ترمق عينك الساعة في معصمك، تقوم بتقدير الوقت الذي تحتاج إليه لقطع المسافة إلى هناك، تمارس لا شعوريا قضما للوقت، وحين لا يتبقى سوى دقائق تهب كالملسوع، وما إن تقود سيارتك في الطريق حتى يلعب معك «قانون مارتن» لعبته المعتادة: (إذا كنت في عجلة من أمرك صارت كل الأشياء ضدك) ورغم جهادك للفرار من الإشارات لاختصار المسافة عبر هذا الشارع أو ذاك أو من داخل الحارات فإنك لا تصل إلا وقد فار الدم في العروق وتحولت الكلمات إلى رصاص!!
ومع ذلك.. ورغم القلق الذي تشوينا في ناره اللحظات الأخيرة ورغم الحنق الذي تحشرج منها غصته في صدورنا فإننا لا نرعوي ولا نتوب، أما لماذا؟ فلأسباب عديدة، ذكرها وتحليلها ليس من بضاعتي بل هما مهمة إخصائيي علم التربية وعلم الاجتماع.. وها أنا أرمي الكورة في مرماهم، لا لكي أسجل هدفا وإنما لعلي أغريهم بالنزول إلى الملعب!.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي