المبالغة في رقابة الامتحانات ولدت الغش في المدارس والجامعات
تصر مؤسساتنا التعليمية والأكاديمية على نهج الأسلوب العتيق في رقابة طلابها خلال فترة الامتحانات فتنهج طرقا بدائية وأساليب تقليدية غير مقبولة تربويا وغير لائقة أخلاقيا، حتى أصبحت جزءا من الثقافات التنظيمية للمدارس والجامعات بل من القيم والأعراف الأصيلة التي لا تقبل النقاش، أو الجدل، أو الخدش.
نشرت جريدة "الوطن" الأحد الماضي، الأحداث المؤسفة التي مرت بها جامعة الباحة مطلع هذا الأسبوع حينما علمت طالبات كلية العلوم التطبيقية بتغيير أسئلة مادة "أساليب البرمجة ونظم المعلومات 2" بعد دخول الطالبات إلى قاعات الامتحان بدقائق، الأمر الذي أثار استياءهن ودفع بعضهن إلى تمزيق الأسئلة ومغادرة القاعة بإيعاز من أستاذة المادة, وقد أدى هذا إلى إصابة بعضهن بانهيار نفسي. وقد برر عميد الكلية سبب تغيير الأسئلة إلى الاشتباه في تسربها، كما وصف تصرف أستاذه المادة بأنه أسلوب غير مسؤول ويرجع إلى قلة خبرتها الأكاديمية.
في رأيي أن ما أقدمت عليه أستاذة المادة والطالبات طبيعي ومتوقع لأن المشكلة ليست في ردة الفعل وتمزيق الأسئلة إنما في الفكر الإداري الدخيل والمتحجر في البيئات التعليمية من مدارس وجامعات. أما وصف عميد الكلية أستاذة المادة بأنها قليلة الخبرة فإنني أرى العكس تماما بل أظنها أستاذة متميزة اعتادت ممارسة الأعراف والتقاليد الجامعية العريقة ويبدو أن خبرتها الأكاديمية عالية فلم تستطع أن تتحمل تغيير أسئلة المادة دون علمها فثارت ثائرتها وأعلنت تمردها, ومن الصعب أن يعيش مثل هؤلاء في ظروف كهذه.
إن حدثا كهذا لا يعد عرضيا بل يتكرر بصور مختلفة وبطرائق متعددة خلال الامتحانات النهائية لأن مؤسساتنا التعليمية ومن ضمنها الجامعات لم تدرك بعد أن الاختبارات هي عملية قياس حصيلة معلومات وأن أستاذ المادة هو المعَنى الأول والأخير بهذه المهمة, وما حالات الشغب والعنف، والغش، التي تحدث إلا إفرازات للضغوط والتوتر التي تحدثها المبالغة في الرقابة والتشكيك في الأساتذة والطلاب وما حدث في جامعة الباحة سلوك متوقع قد نبهنا منه مرارا وتكرارا ودخلنا من أجله صراعات وطالبنا بعقد الندوات لندرك جميعا أن الامتحان ما هو إلا علاقة بين أستاذ وطالب والبقية فرق مساعدة.
قبيل الامتحانات تقوم بعض المؤسسات التعليمية بتقسيم طاقميها التعليمي والإداري إلى عدة مجموعات تتولى عدة مهام. مجموعة تتأكد من نظافة مناضد الطلاب وحوائط القاعات من الكتابات والرسومات ولو وصل الأمر إلى إعادة طلائها. مجموعة أخرى تتأكد من إغلاق النوافذ وسد الثغرات التي قد تنفذ منها أي معلومة قد تفيد الطالب أثناء تأدية الامتحان. أما المجموعة الثالثة فمهمتها إصدار التصاريح وتحديد من لهم حق الدخول إلى قاعات الامتحان. ثم تأتي من بعد ذلك الجولات الميدانية للقيادات التعليمية والأكاديمية للتأكد من أن الوضع تحت السيطرة, ويظهر ذلك في الصحف وتنقلها نشرات الأخبار. فترى وسائل الإعلام تعرض جولات بعض القيادات وهم يتفقدون قاعات الاختبارات ويرون أن هذا من صلب عملهم ومن أهم واجباتهم تفوق في أهميتها إعداد الاستراتيجية وبناء الخطط المستقبلية.
ما ضر لو ولج الطلاب قاعات الامتحان دون رقابة، ودون طلاء الجدران، وبدون تغيير الأسئلة، وما ضر لو أشرف أستاذ المادة على اختبار طلابه بنفسه فقد صحبهم عاما كاملا يعرف المتفاني من الكسول والجاد من المهمل، ومنحناه الثقة في تعليمهم، وتقويم سلوكهم، وتهذيب أفكارهم أفلا نثق بإشرافه عليهم أثناء الامتحانات؟ ولنظن في طلابنا الظن الحسن ولنتوقع منهم الصدق، والموضوعية، والأمانة، وإن سولت لأحدهم نفسه وأدخل معه ما يرى أنه يعينه في تذكر معلومة فلننظر إليه من طرف خفي حتى يستيقظ ضميره ويخفي ما بحوزته وبذا نمنحه فرصة العودة وتصحيح الصورة وأظنه لن يعاود الكرة إذا علم أنه سيمتحن في قاعة الدرس التي ألفها طوال العام وبمعية زملائه الذين عاشرهم خلال أيام السنة وبإشراف معلمه وأستاذه الذي اعتاد الحديث معه وألف سلوكه وطريقة ترغيبه وترهيبه.
لقد قسونا كثيرا على أبنائنا باختلاقنا أساليب رقابية لا تليق بالبيئة التعليمية ولا تُقبل من الناحية التربوية. إن هذه المبالغة في الاحتياطات وتهميش دور الأستاذ والشك في الطلاب هي التي ابتكرت وطورت أساليب الشغب والغش والتمرد على الأنظمة في المدارس والجامعات. نحن الذين جعلنا أيام الامتحانات شاقة، قاسية، تعيسة، وذكرى مريرة. نحن الذين ألجأنا الطلاب إلى السلوكيات البغيضة بطرائقنا وآلياتنا وتصرفاتنا التي لم تنضج. يجب أن نغير كثيرا من أنظمتنا خلال فترة الامتحانات حتى تمر الفترة بسلام ولا مانع من ممارسة وظيفة الرقابة ولكن بطريقة فاعلة تربي الطالب على احترام الذات وتقديس البيئة التعليمية وتنمي الولاء والانتماء للأستاذ. وقد أحسنت وزارة التربية والتعليم عندما استبدلت الاختبارات للمرحلة الابتدائية بطريقة "التقييم المستمر" رغم أن البعض ما زال يعارض هذا الأسلوب إلا أنني أرى أن فوائده كثيرة وإيجابياته عديدة ومن أبرزها انتزاع هيبة الامتحانات من أنفس الأولاد والبنات.