لا تمنحوهم رخصة للقتل
في العام الماضي، عاش العالم تجربة غير عادية؛ فبعد إفلاس "ليمان براذرز" في أيلول (سبتمبر) 2008 انهارت الأسواق المالية وتطلب الأمر وضعها على أجهزة دعم الحياة الاصطناعية. ولم يحدث شيء من هذا القبيل منذ أزمة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن الـ 20.
والأمر الذي جعل ذلك الانهيار لافتاً للنظر إلى هذا الحد هو أنه لم يكن راجعاً إلى عوامل خارجية، بل لقد نشأ في قلب النظام المالي ذاته ثم انتشر عبر الاقتصاد العالمي بالكامل. وأكاد أجزم أن ذلك لم يكن متوقعاً على الإطلاق، حيث كان الرأي السائد أن الأسواق قادرة على تصحيح ذاتها تلقائياً.
والآن أصبحنا ندرك أن ذلك الرأي غير صحيح. ولكن بعد أن قطعنا شوطاً طويلاً في تحرير الأسواق من التنظيمات فقد بات لزاماً علينا أن نقاوم ميلاً طبيعياً نحو المبالغة في التعويض والتصحيح. فرغم أن الأسواق لا تتمتع بالكمال، إلا أن القائمين على التنظيم ليسوا بشراً فحسب؛ فهم أيضاً بيروقراطيون وخاضعون للنفوذ السياسي. ومن ثَم فإن التنظيمات الجديدة لا بد أن تظل عند حدها الأدنى.
لا بد لأي برنامج إصلاحي أن يسترشد بثلاثة مبادئ. أولاً وقبل كل شيء، يتعين على السلطات المالية أن تتقبل المسؤولية عن منع فقاعات الأصول من النمو إلى أحجام أعظم مما ينبغي لها. زعم رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق ألان جرينسبان، وآخرون، أن الأسواق إن لم تكن قادرة على تمييز الفقاعات والتعرف عليها فإن الأجهزة التنظيمية أيضاً لن تتمكن من ذلك. ولكن على الرغم من ذلك يتعين على السلطات المالية أن تتقبل المسؤولية: ففي حين أنه من المحتم أن تكون هذه السلطات على خطأ فإن ردود الأفعال في السوق ستنبئها ما إذا كانت التدابير التي اتخذتها قاصرة أو مبالغا فيها. وآنذاك يصبح بوسعها أن تصحح أخطاءها.
ثانياً، إن السيطرة على فقاعات الأصول لا تتطلب التحكم في المعروض من المال فحسب، بل أيضاً التحكم في المتاح من الائتمان. وأفضل الأدوات المعروفة لتحقيق هذه الغاية تتلخص في المتطلبات الهامشية والحد الأدنى من متطلبات رأس المال. وعلى نحو مماثل، يتعين على السلطات المالية أن تعمل على تنويع نسبة القرض إلى القيمة في قروض الرهن العقاري والتجاري بهدف قياس المجازفة من أجل إحباط فرص نشوء فقاعات العقارات.
وربما كان لزاماً على الجهات التنظيمية أيضاً أن تعود إلى استخدام بعض الأدوات القديمة. على سبيل المثال، لن نتعرض لأزمات مالية إذا أصدرت البنوك المركزية توجيهاتها إلى البنوك التجارية بالحد من القروض التي تقدمها إلى بعض القطاعات الاقتصادية التي ترى أنها منخرطة في أنشطة اقتصادية محمومة، مثل العقارات أو القروض الاستهلاكية. والسلطات الصينية تتبنى هذا التوجه اليوم، وهي أيضاً تشكل الحد الأدنى من الودائع التي يتعين على البنوك أن تحتفظ بها لدى البنك المركزي. أو تعالوا بنا نتأمل فقاعة الإنترنت، التي اعترف جرينسبان بها في وقت مبكر ولكنه لم يحرك ساكناً لعلاجها. وكان يعتقد عن حق أن اللجوء إلى الحد من المعروض من النقود كان ليشكل أداة تفتقر إلى الحساسية إلى حد كبير. ولكن كان بوسع جرينسبان أن يبتكر تدابير أكثر تحديداً، كأن يطلب من لجنة الأوراق المالية وأسواق البورصة أن تجمد إصدارات الأسهم الجديدة، وذلك لأن استخدام الروافع المالية لتعزيز الأسهم كان من بين أهم الأسباب التي أدت إلى تغذية الفقاعة.
كانت فقاعة الإنترنت غير عادية في هذا السياق. فعادة يكون الائتمان هو المسؤول عن توفير الروافع المالية، والائتمان ارتدادي بطبيعته. وبالتالي فإن أي زيادة في الاستعداد للإقراض تميل إلى زيادة قيمة الضمانات الثانوية، كما تعمل على تحسين أداء المقترضين، وهذا من شأنه أن يشجع على تخفيف معايير الائتمان. إن الفقاعات تحدث، وبصورة خاصة في القطاع العقاري، بسبب تجاهل هذه العلاقة الارتدادية.
وهذا يقودني إلى النقطة الثالثة: يتعين علينا أن نعيد النظر في معنى المجازفة في السوق. فالأسواق طبقاً للنظرية التقليدية تميل نحو التوازن، وتعمل دون أي انقطاع في تسلسل الأسعار، أما الانحرافات فإنها تحدث على نحو عشوائي. ونتيجة لهذا يصبح من الممكن معادلة مخاطر السوق مع المخاطر التي تواجه المشاركين في السوق كأفراد. وما دام بوسع هؤلاء المشاركين أن يديروا مجازفاتهم بالشكل اللائق فلابد أن تكون الجهات التنظيمية سعيدة بهذا.
غير أن الأسواق عُـرضة لأشكال الخلل التي قد يتجاهلها المشاركون الأفراد إذا ما رأوا أنهم قادرون على تفريغ أحمال التزاماتهم على أشخاص آخرين. وعلى النقيض من ذلك فإن الجهات التنظيمية لا تملك أن تتجاهل أشكال الخلل هذه، وذلك لأن وجود عدد أكثر مما ينبغي من المشاركين على الجانب نفسه يعني عدم إمكانية تسييل الالتزامات من دون التسبب في انقطاع، أو ما هو أسوأ من ذلك، انهيار مالي.
وعلى هذا فهناك مخاطر شاملة مرتبطة بالسوق، وتحويل الأصول المصرفية إلى أوراق مالية في غياب القواعد التنظيمية، والذي كان السبب الرئيس وراء الانهيار الأخير، من شأنه أن يزيد الطين بلة. ولتجنب التكرار لا بد أن تشتمل الأوراق المالية التي تحتفظ بها البنوك على تقدير أعلى لعامل المجازفة مقارنة بوضعها الحالي. ويتعين على البنوك أن تدفع في مقابل الضمانات الحكومية الضمنية عن طريق الحد من استخدام الروافع المالية وقبول القيود المفروضة على الكيفية التي تستثمر بها هذه البنوك أموال المودعين.
وكحد أدنى لا بد أن تتولى البنوك تمويل مقايضة الأملاك برأسمالها الخاص. وإذا كان أحد البنوك أضخم من أن يُـسمَح له بالإفلاس، فلا بد أن تذهب الجهات المالية إلى ما هو أبعد من هذا، فتعمل على تنظيم حِزَم تعويض المتاجرين في الأملاك بهدف ضمان ترتيب وتنظيم المجازفات والمكافآت على النحو اللائق. كما يتعين على صناديق الوقاء وغيرها من الجهات الاستثمارية الضخمة أن تخضع للرقابة اللصيقة لضمان عدم إسهامها في تراكم أشكال خطيرة من الخلل. فضلاً عن ذلك فإن إصدار وتداول المشتقات المالية لا بد أن يخضع للتنظيم على نحو لا يقل صرامة عن تنظيم الأوراق المالية. ويتعين على الجهات التنظيمية أن تصر على تجانس المشتقات المالية المتداولة وخضوعها للمعايير. أما بعض المشتقات المالية، وخاصة عقود مقايضة العجز عن سداد الائتمان، لا ينبغي تداولها على الإطلاق.
ولكي نتعرف على السبب، يتعين علينا أن نلاحظ أن الحيازة طويلة الأجل أو البيع على المكشوف في سوق الأوراق المالية يتسمان بمخاطر ومكافآت غير متماثلة. فالخسارة في الحيازة طويلة الأجل تعمل على تقليص عامل المجازفة، في حين أن الخسارة في عمليات البيع على المكشوف تزيد من عامل المجازفة، وهذا يعني أن المستثمر من الممكن أن يتحلى بقدر أعظم من الصبر في حالة الحيازة طويلة الأجل، وهذا بطبيعة الحال أفضل من أن يكون على خطأ في حالة البيع على المكشوف.
والآن تعرض أسواق تداول عقود مقايضة العجز عن سداد الائتمان وسيلة مريحة لتقصير زمن السندات، غير أن مخاطر/ مكافآت عدم التماثل تعمل في الاتجاه المعاكس. ذلك أن تقصير السندات من خلال شراء عقد مقايضة العجز عن سداد الائتمان يحمل في طياته قدراً محدوداً من المجازفة ولكن احتمالات ربحيته غير محدودة، في حين أن بيع عقود مقايضة العجز عن سداد الائتمان يعرض أرباحاً محدودة وقدراً غير محدود من المجازفة. وهذا من شأنه أن يشجع المضاربة على الجانب القصير، الأمر الذي يفرض ضغوطاً على السندات الأساسية.
ويتعزز الأثر السلبي هنا لأن عقود مقايضة العجز عن سداد الائتمان يمكن تداولها، ولهذا فإن السوق تميل إلى تسعيرها باعتبارها ضمانة يمكن بيعها في أي وقت، وليس باعتبارها سهما اختياريا يتطلب وجود عجز فعلي لصرفه. إن الناس لا يشترون عقود مقايضة العجز عن سداد الائتمان لأنهم يتوقعون العجز عن السداد، ولكن لأنهم يتوقعون ارتفاع قيمة هذه العقود في استجابة للتطورات السلبية المعاكسة.
وهذا هو ما دمر "أمريكان إنترناشيونال جروب"، وما أدى أيضاً إلى إفلاس Abitibi-Bowater أخيرا، كما أدى إلى الإفلاس المعلق لشركة جنرال موتورز. وفي كل من الحالتين فإن احتمالات المكسب نتيجة للإفلاس كانت أعظم من احتمالات المكسب الذي قد ينتج عن إعادة التنظيم، وذلك لأن بعض حملة السندات كانوا يملكون عقود مقايضة العجز عن سداد الائتمان.
إن شراء عقود مقايضة العجز عن سداد الائتمان أشبه بشراء وثيقة تأمين على حياة شخص آخر ثم الحصول على رخصة لقتله. والآن أصبح من واجب الجهات التنظيمية أن تضمن عدم حصول أي شخص على مثل هذه الرخصة أبداً.