رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


بعض الواقعية وقليل من التنظير في السياسة الاقتصادية

في تقرير السياسة الاقتصادية العامة وفي طرح ما يتعلق بها نحتاج إلى مزيج بين النظرية والواقعية. فليس من الممكن الاعتماد بشكل كامل على الأطروحة النظرية التي تحاول شرح واقع اقتصادي افتراضي مقيد بشروط محددة مسبقاً في وضع السياسات الاقتصادية. السبب في ذلك أن التيار السائد في النظرية الاقتصادية يعتمد على افتراض تصرف الأشخاص بشكل عقلاني - Rationality في تقرير ما يحتاجون إليه وبما يعظم منفعتهم الاقتصادية. لكن الواقع والتجارب تدل على أن الأشخاص كثيراً ما يتصرفون بطريقة غير عقلانية في اتخاذ قراراتهم الاقتصادية المختلفة في مظهر لا يدل على أنهم يعظمون المنافع الخاصة بهم.
لذلك، ظهر الاقتصاد السلوكي - Behavioral Economics لتفسير هذا السلوك الذي لا تستطيع النظرية الاقتصادية التقليدية أن تفسره وليثبت بشكل واضح من خلال التجارب العملية أن الأفراد يتخذون مواقف مختلفة تجاه تقييم المخاطر أو خيارات الاستثمار على الرغم من وضوح الخيار العقلاني بينها، مما جعل الكثيرين يعيدون النظر في الاعتماد بشكل كامل على النظرية الاقتصادية التقليدية في تحديد السياسات الاقتصادية الملائمة. إضافة إلى ذلك، أظهرت نتائج الدراسات أن كثيراً من سلوك الأفراد يتصف بالإيثار أو Altruism حين يقوم الأفراد بتصرفات اقتصادية لا تهدف إلى تحقيق مكاسب شخصية، وإنما تنبع من الرغبة في مساعدة الآخرين ويؤثر فيها الجانب الأخلاقي والخلفية الدينية للفرد.
لذلك ، فإن الاعتماد الكلي على التحليل الاقتصادي المنطلق من النظرية الاقتصادية التقليدية دون الأخذ في الحسبان تعقد العلاقات الاقتصادية قد يوقع صاحبه في الكثير من الخطأ في تقرير السياسة الاقتصادية الملائمة وسيظهر الاقتصاديين وتحليلاتهم الاقتصادية للظواهر المختلفة بشكل غير مقبول سواءً من الأفراد أو من مقرري السياسة العامة. وهذا ما يدعو الكثيرين إلى التندر بالاقتصاديين هذه الأيام خصوصاً في عدم مقدرتهم على التنبؤ بالأزمة المالية العالمية، ومن تلك النوادر سؤال عن عدد من الاقتصاديين الذين نحتاج إليهم لتغيير مصباح الإنارة؟ والجواب لا أحد، لأن كلاً منهم سوف ينتظر اليد الخفية لتأتي وتغيرها.
وهذا دعا ثمانية من الاقتصاديين إلى كتابة ورقة أطلق عليها تقرير دالم Dahlem أكدوا فيه على عجز الاقتصاديين والنماذج الاقتصادية التقليدية عن إدراك تراكمات السياسات الاقتصادية السابقة التي أدت إلى الأزمة المالية العالمية الحالية. وعزوا ذلك إلى عدم التوزيع الصحيح للبحث الاقتصادي على مجالات النظرية الاقتصادية المختلفة وتركيزه في مجال واحد هو التيار الأساسي التقليدي الذي ينطلق من العقلانية والرشد الاقتصادي في بناء النماذج الاقتصادية وتقرير السياسات الاقتصادية بناءً عليها دون الأخذ في الحسبان عجز هذه النماذج عن إدراك الواقع الاقتصادي بمضامينه المختلفة الاجتماعية والسياسية والسلوكية وغيرها.
ويشير التقرير إلى أن اعتماد الاقتصاديين التقليديين الكبير على مبدأ الرشد والعقلانية يؤدي بهم إلى تجاهل الدليل الذي تؤكده العلوم الأخرى كعلم النفس وعلم الاجتماع على أن الفرد يتصرف في كثير من الأوقات بطريقة غير عقلانية مما يطرح تفسيرات أخرى لهذا السلوك غير الرشد الاقتصادي كالطمع Greed والخوف Fear. وحتى لو تصرف الفرد بطريقة عقلانية كما يشرحه النموذج الاقتصادي التقليدي، فإن تعميم هذا السلوك على سلوك الجماعة أمر غير مقبول لأن الجماعة قد تتصرف بشكل غير ما يتصرف به الأفراد. مثال ذلك أن قرارات الفرد للشراء والبيع في سوق الأسهم قد تختلف بين كونه داخل صالة يتداول فيها الكثير من الأفراد وبين كونه معزولاً عنهم في غرفة خاصة به.
وفي الطرح المتعلق بسياساتنا الاقتصادية نجد الكثير من الفوقية واللاواقعية التي يمارسها البعض تجاه بعض القضايا دون أخذ الواقع الاقتصادي في الحسبان ودون التوقف عند الجوانب التي أدت إلى تبني سياسة اقتصادية معينة. على سبيل المثال سياسات الدعم التي تتبناها الدولة في بعض المجالات، إن لم يكن لها ما يبررها من منطلق النظرية الاقتصادية التقليدية، فقد يكون لها ما يبررها واقعياً واجتماعياً وسياسياً مما يوجب وضعها في إطارها الصحيح عند طرحها للنقاش والتقييم. لذلك، يجب ألا نغفل أثر هذه الإعانات في الحد من معدلات التضخم التي واجهتها المملكة خلال العامين الأخيرين مما أدى إلى التخفيف من آثارها الاقتصادية والاجتماعية، ولا يعني ذلك أن نؤيد أن تكون تلك الاعانات دائمة وإنما مؤقتة لمعالجة ظرف اقتصادي في مرحلة اقتصادية معينة تزال حال زوال ذلك الظرف.
أنا أعلم أن الكثير من الاقتصاديين – وأنا منهم – مغرمون بالبناء النظري الاقتصادي وبالتحليل الاقتصادي انطلاقاً من هذا البناء النظري، لكن يجب أن لا ننسى أن هناك واقعاً اقتصادياً معيناً يحتم على واضع السياسة الاقتصادية التحرك بعيداً عن هذا البناء لمعالجة ظروف اقتصادية مستجدة. مثال ذلك قرار منع تصدير الأسمنت والحديد والذي جاء في وقت معين استوجب اتخاذ قرار اقتصادي لمعالجة ظاهرة ارتفاع غير مبرر في أسعار الحديد والأسمنت. ولو كان واضع السياسة الاقتصادية سينتظر إلى أن يعدل السوق هذه الأسعار وإلى أن يتم بناء مصانع أسمنت وحديد جديدة لكنا قد وقعنا في كارثة اقتصادية كبيرة ولأصبحنا جميعاً مدينين لملاك هذه المصانع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي