رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الحماية من الإفلاس فقهاً, وقضاء (1 من 2)

لا تزال الأزمة المالية العالمية تطيح بضحاياها من المؤسسات والشركات المالية, واحدة بعد أخرى, حيث استطاعت قبل أيام أن تسدد ضربتها القاضية ضد إحدى الشركات الكبرى (جنرال موتورز) بعد أن أطاحت بشركتين عملاقتين, وهما مصرف ليمان براذرز, وشركة الاتصالات (وورلد كوم), وقبل أيام بدأت شركة جنرال موتورز رسمياً إجراءات إشهار إفلاسها؛ وذلك للاحتماء بالبند الحادي عشر لتفادي التصفية, وبعد أن بدأت بوادر الأزمة تطل على بعض شركاتنا المحلية صرنا نقرأ ونسمع من يطالب بضرورة إيجاد نظام يحمي شركاتنا من الإفلاس, وذلك على غرار البند الحادي عشر الخاص بحماية الشركات الأمريكية من الإفلاس, لذا جاء هذا المقال ليسلط الضوء على هذا الموضوع من الناحية الفقهية والقضائية, وقبل الحديث في هذا الموضوع, لابد من إشارة سريعة إلى موقف الفقه من الإفلاس, فأقول:
الإفلاس سببه العجز عن سداد مستحقات الدائنين, ومتى يعتبر عاجزا عن السداد؟
تختلف الآراء الفقهية والقانونية في حد العجز, أما الفقهاء فمختلفون أيضا, فأكثرهم يحد العجز بأن تكون ديون المدين الحالة أكثر من رأسماله, وبعضهم يحد العجز بما كانت ديونه محيطة بسائر ماله, بحيث تنضب لديه السيولة, ولا يستطيع السداد إلا بتصفية أصوله كاملة, وعرضها للبيع, وهذا الاتجاه الثاني هو الذي يتفق معه نظام المحكمة التجارية في مادته (103), حيث عرف النظام المفلس بأنه: "من استغرقت الديون جميع أمواله, فعجز عن تأديتها"أهـ، فلم يشترط النظام في التفليس أن يكون الدين زائداً على مجموع المال, وقد يقال إن المادة ليست نصاً صريحا في ذلك.
على كل حال, إذا زادت الديون عن مال المدين, أو استغرقت ديونه جميع المال, فقد اختلف الفقهاء في حكم الحجر عليه على قولين:
1. عدم مشروعية الحجر عليه, وهو قول أبي حنيفة، رحمه الله. إلا أنه استثنى, وقال: إلا أن الحاكم يجبره على البيع إذا لم يمكن الإيفاء دون إجبار، لقوله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)، واستثنى أبو حنيفة من ذلك أنه إذا كان دينه دراهم، وفي المال دراهم، دفعت للغريم جبرا.
2. مشروعية الحجر عليه, والحجر هنا يعني: منعه من التصرفات المالية, وهذا قول الجمهور من الحنفية, والمالكية, والشافعية, وقول الصاحبين من الحنفية. واشترط المالكية وجوب الحجر ألا يمكن للغرماء الوصول إلى حقهم إلا به. وقول الجمهور هذا هو الأرجح, ويدل عليه حديث كعب بن مالك رضي الله عنه, وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ، رضي الله عنه ماله, وباعه في دين كان عليه, وقسمه بين غرمائه)، وكذلك أثر أسيفع: (أنه كان يشتري الرواحل، فيغالي بها، ثم يسرع في السير, فيسبق الحاج، فأفلس، فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب, فقال: أما بعد: أيها الناس, فإن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال: سبق الحاج، إلا أنه قد أدان مغرضا، فأصبح وقد دين به"أي أحاط به الدين" فمن كان له دين فليأتنا بالغداة, نقسم ماله بين غرمائه..)، وأيضاً فإن العدالة تقتضي ذلك؛ فإن المدين الذي استغرقت ديونه جميع ماله، قد تعلقت حقوق الناس بأمواله, فأصبح يحرم عليه ديانة كل تصرف يضر بالدائنين.., وهذا القول كما أنه يسنده الدليل, فهو أيضاً ما عليه العمل في محاكمنا الشرعية.
والحجر في الشريعة الإسلامية على أنواع:
أ‌- حجر لمصلحة الغير كالحجر على الراهن في المرهون لمصلحة المرتهن, والحجر على المفلس للغرماء, كما تقدم.
ب‌- حجر لمصلحة المحجور عليه كالحجر على المجنون، والصغير، والسفيه. ومن ذلك قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا)، وإذا كان السفيه يحجر عليه لحظ نفسه, أي: لئلا يضر بنفسه, فما الظن إذن بسفهاء الرأسمالية, الذين أضروا باقتصاد العالم كله؟! إن سفهاءهم مستحقون لهذا الحجر, ولو حُجر عليهم بقوة القانون لما حصل ما حصل, وأعني بالحجر هنا منعهم من العبث بمقدرات الشعوب والدول, وذلك بالحجر على مصدري السندات, ومعلبي السندات, وبمؤسسات التصنيف التي غررت بالناس.. إلخ, والحديث عن هؤلاء يمهد لنوع ثالث من أنواع الحجر, يمكن أن نطلق عليه:
ت‌- حجر لمصلحة المجتمع بأسره, وربما لمصلحة العالم ككل, ومن هؤلاء سفهاء الرأسمالية كما تقدم, ومنهم أيضا: من يتعرض للإفتاء وهو جاهل لا يعلم حقيقة الحكم الشرعي, فيَضل ويُضل, وتصبح فتياه فتنة بين المسلمين- سواء أفتى بلسانه, أو بقلمه - وكذا الحجر على الطبيب الجاهل الذي يداوي الأمة وهو لا يعلم شيئا من فن الطب، فتزهق أرواح طاهرة بين يديه لفرط جهله, وهذه رسالة إلى وزارة الصحة لتحجر على من عبثوا بأجساد المرضى, واتخذوها حقل تجارب..! فالمثال الأول للمحجور عليهم مفسدون للأموال, والثاني للأديان، والثالث للأبدان، وليس المراد بالحجر على هؤلاء حقيقة الحجر الشرعي, وإنما منعهم من الإفساد في الأرض، وهو جزء لا يتجزأ من شعيرة الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر.
ثم إن العلماء، رحمهم الله، لم يوجبوا الحجر على المفلس هكذا دون زمام أو خطام, كلا, بل وضعوا ضوابط شرعية تنظم عملية الحجر, بحيث تحفظ حق الدائن والمدين على حد سواء, ومن تلك الشروط: أن يطلب الغرماء أو أحدهم الحجر عليه. فلو طالبوا بديونهم ولم يطلبوا الحجر لم يحجر عليه. وأن يكون الدين حالا، وأن لا يحجر عليه إلا بحجر القاضي عليه.. إلخ. وإذا حجر القاضي على المفلس، ترتب على ذلك عدة أمور, منها: تعلق حقوق الغرماء بماله- فيمنع من التصرف فيه- وحلول الدين المؤجل في ذمة المدين (على خلاف فيه), واستحقاق من وجد عين ماله عند المدين استرجاعه, وانقطاع المطالبة عن المدين, وبيع القاضي ماله.., ويستثنى من ذلك الأمور الضرورية والحاجية, كدار المدين, وسيارته, ونحو ذلك, بالإضافة إلى الإبقاء له من النفقة ما يكفيه وأهله وأولاده مدة الحجر. وقد نص بعض الفقهاء على وجوب المبادرة بقسم مال المفلس بين غرمائه؛ لئلا يطول زمن الحجر عليه، ولئلا يتأخر إيصال الحق لمستحقه، وتأخير ذلك مطل, وفي الحديث الصحيح:(مطل الغني ظلم) هذه بعض أحكام الحجر والإفلاس. وإلى هنا نصل إلى السؤال المهم, وهو: هل نحن بحاجة فعلا إلى البند الحادي عشر الأمريكي لنحمي شركاتنا من الإفلاس؟
هذا ما سنوضحه في المقال القادم بإذن الله تعالى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي