ألا يكفي مؤهل الثانوية العامة لدخول الجامعة؟
بدأ كابوس الاختبارات النهائية للمرحلة الثانوية يطرق الأبواب والنفوس والذي يفترض أن يلتحق الطلاب بعدها مباشرة بالجامعة أسوة بأمثالهم في دول العالم، إلا أن أبناءنا يدفعون الثمن باهظا، فيقفون حيارى مذهولين أمام سلسلة امتحانات ليس لها مبرر علمي أو مسوغ قانوني. إنهم يواجهون عقبة بعد أخرى ومحنة تتلوها محنة وامتحانا يتلوه آخر. فبعد اختبار الثانوية العامة يعدون العدة لما يسمى باختبار القدرات (القياس) بعدة بأسابيع يطل عليهم اختبار التحصيل، ثم الهلع من طريقة حساب النسبة الموزونة، فـالمقابلة الشخصية، وكل هذا لا يشفع لهم بدخول الجامعة, فقد يجد أحدهم نفسه خارج قوائم المقبولين. إنها ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يرها.
لقد ابتدعت الجامعات هذه الاختبارات لعدم ثقتها بمخرجات التعليم العام بحجة أن بعض الطلاب غير المؤهلين قد يحصلون على مقاعد فيحرمون منها الأكفاء. وإذا سلمنا بصحة هذا الادعاء فهل من الحكمة إعادة تقييم خريجي الثانوية وتحميل الناس فوق طاقتهم. فاختبارات ما بعد الثانوية ستجعل أبناءنا يواجهون مصيرا مجهولا قد تفقدهم إتقان المعارف الأساسية وضياع الهوية الثقافية بسبب الاهتمام بالاختبارات التأهيلية على حساب التحصيل العلمي.
بدأت الجامعات في تقييم خريجي الثانويات باختبار القدرات (القياس) ثم أضافت التحصيل, وقد يضاف اختبار اللياقة البدنية، وآخر لقياس سعة الذاكرة، وما الذي يمنع من اختبار آخر يقيس حصيلة الطالب في مادة التربية الوطنية عن طريق الغوص بالزي الوطني في المحيط الهادي، اختبارات لا ندري من أين أتت؟ و كيف وضعت؟ ولماذا وضعت؟
ألا ترون أن مثل هذه الاختبارات ستبعد أبناءنا عن الاهتمام بالمناهج الدراسية واكتساب المهارات والمعارف الأساسية والتحصيل العلمي لأن جل اهتمامهم سينصب على آليات أداء الامتحانات على حساب المقررات الدراسية حتى تصبح مناهج التربية والتعليم ومؤهل الثانوية العامة عديمة القيمة. فنسبة مؤهل الثانوية العامة لا تتعدى 30 في المائة فقط من النسبة الموزونة, وهي في تناقص مستمر من سنة إلى أخرى, بينما تمثل نسبة اختبارات القياس والتحصيل 70 في المائة وهي في تزايد مستمر من سنة إلى أخرى.
كما أن هذه الاختبارات المتتالية ولدت جيلا مريضا وضحاياها في تصاعد. فلا عجب أن ترى من يحمل بين جوانحه أمراضا نفسية كالكآبة والوسواس والقلق وانفصام الشخصية, وهذه بدورها أفرزت أمراضا عضوية كالسكري وضغط الدم وقرحة المعدة لشاب لم يخط خطوة واحدة في عقده الثالث. أقولها من تجربة بحكم علاقتي بطلاب الجامعة, وبهذا فلنتوقع منهم أي سلوك يخرج عن المألوف. ناهيك عن الأعباء المالية من رسوم الاختبارات وأعباء التنقلات للبحث عن مراكز الامتحانات. فلكي يزيد الطالب فرصته في دخول الجامعة يتعين عليه أن يؤدي كل امتحان عدة مرات, والجهات المعنية لا تمانع طالما هناك أموال تدفع. أما من هم في مناطق نائية فتواجههم إضافة إلى كل ما سبق معضلة تتبع مراكز أداء الامتحانات، فيتنقلون من قراهم وهجرهم إلى المدن عدة مرات في السنة، وإن صعب عليهم الأمر فيكتفون بشهادة الثانوية العامة رغم ما يمتلكونه من قدرات عقلية هائلة قد تفيد وطنهم وأمتهم وأنفسهم.
إذا كان الهدف من هذه الاختبارات إعادة تقييم مخرجات التربية والتعليم فهناك طرق أخرى ووسائل أجدى من هذه الضغوط المتتالية, ولا أظن مفكرينا، وقادتنا التربويين، والأكاديميين يعجزون عن حلول أكثر منطقية، وأقرب واقعية، وأكثر عقلانية، من اختباري التحصيل والقياس.
والتعليم العالي ليست الجهة الوحيدة التي تشكك في أداء مؤسسات الدولة فهناك حركة مضادة تقوم بها التربية و التعليم تقيّم من خلالها خريجي الجامعات انطلاقا من مبدأ "المعاملة بالمثل". فبدل أن تكون العلاقة بين المؤسسات التعليمية والأكاديمية توافقية تكاملية نرى العكس تماما، فالتعليم العالي لا يثق بمخرجات التعليم العام فتبتدع اختبارات تعسفية, وهذه الأخيرة تشكك في مقدرة الأولى فتضع اختبارات تعجيزية, وكل يمارس سطوته بطريقته لإعادة تقييم مخرجات الآخر، والضحية أبناؤنا وبناتنا. وافقت التربية والتعليم الأسبوع الماضي على إتاحة الفرصة مرة أخرى للمتقدمين على وظيفة معلم الذين لم يحالفهم الحظ في اجتياز اختبار القياس في رسالة ضمنية موجهة للتعليم العالي مفادها أن طلابكم يحتاجون إلى إعادة تأهيل، فرغم تخرجهم في الجامعة إلا أنهم لم يصلوا إلى معايير التربية والتعليم.
المشكلة ببساطة تتمثل في حالة الشك وعدم ثقة بين الجهات المعنية والحل في رأيي يتمثل في التنسيق بينهم, وأن تكون العلاقة ودية، تكاملية يتخللها تغذية عكسية تبادلية, وكل طرف عليه المشاركة في إعادة صياغة مناهج وخطط الطرف الآخر حتى يكتمل العقد ويعم النفع، وعلينا أن نقبل بعضنا حتى نتجاوز هذه المرحلة, فجامعات العالم تقبل أبناءنا دون تحصيل ودون قياس.
ونختم فنقول إن حالة الشك وعدم الثقة هذه تفتك بأنفس مواردنا البشرية، وما علينا سوى قبول الأمر والتكيف معه حتى تنقشع الغمة وتنتهي تجارب مؤسساتنا التعليمية والأكاديمية وتنضج آلياتها التشغيلية.