باب ما جاء في البنزين
لقد استنفر بعض الخبراء حاستهم الاقتصادية أو الإحصائية حول الاستهلاك العالي للوقود، خصوصا البنزين في اتجاه واحد، وعلى طريقة الضبعة التي لا تقوى على الالتفات لا يمنة ولا يسرة، فلم يروا في ارتفاع الاستهلاك للبنزين سوى أنه ناجم عن استغلال غير رشيد من قبل الناس بسبب تكلفته الرخيصة وأننا نستهلك ما يستهلكه مليار إنسان في الهند، على حد تعبير خبير فضّل أن يكون ضميرا مستترا، أو أن رخص سعره جعل منه سلعة مغرية للتهريب على ظهور (الحمير!) أو عن طريق تكرار ملء خزانات الوقود وتفريغها لبيعها بأسعار عالية في دول الجوار، كما زعم آخرون، أو التأكيد على أن كثافة العربات وسهولة اقتنائها وراء الحجم الكبير للاستهلاك.
هذه (العلعلات) جابهها الدكتور فهد الشثري بمرافعة دمثة موضوعية علمية في مقالين متتاليين له بعنوان (منطقية الربط بين سعر البنزين واستهلاكه) نشرا في هذه الجريدة، أوضح فيهما أن الاتكاء على الإحصاء نوع من الكذب، على حد تعبير الكاتب الأمريكي الساخر مارك توين.. ذلك أن مقارنة استهلاك الهند باستهلاك المملكة منسوبا لعدد السكان مغالطة مضللة تشبه الإشارة إلى أن الجزء البارز من جبل الجليد في البحر هو كل الجبل.
أوضح الدكتور الشثري أن تدني دخل الفرد في بلد المليار لا يقارن بأي حال من الأحوال بدخل السعودي المرتفع، مع أن الناتج الإجمالي الوطني الهندي أضخم من الناتج الإجمالي السعودي، لكن نسبة الدخل إلى السكان تطيح بالمعيار الرقمي.. فضلا عن أن الهند لديها تراث عريق في وسائل النقل العام وبدائل أخرى تقليدية تحد كثيراً من الاستهلاك.
المسألة ليست أعدادا بأعداد، وعلى طريقة وزير الدفاع الأسبق ماكنمارا في حرب فيتنام الذي راح يحسب عدد الطلعات الجوية، عدد القنابل، الصواريخ، الجنود والعتاد بمعادلات رياضية ويتخذ من نتائجها على الورق – بمعزل عن العوامل الأخرى – حكما قاطعا بأنه سيربح الجولة هنا أو الجولة هناك.. وبقية القصة باتت معروفة حصدت منها أمريكا هزيمة شنعاء.
إن سبب ارتفاع الاستهلاك السعودي (بعيدا عن طريقة ماكنمارا أو سلوك الضبعة) يكمن في طبيعة حركة النقل وميدانه، كما يكمن في أسلوب حياتنا. وقد أوضح الدكتور المتخصص في هندسة النقل سامي الدبيخي في هذه الجريدة أيضا أنه يوجد في الرياض نحو مليون سيارة، وأن معدل التملك للسيارة فيها منخفض، فهو 224 سيارة لكل ألف شخص، بينما هو 600 في أمريكا، 500 في أستراليا، 524 في كندا، 390 في أوروبا، أي أن حجم التملك يظل نسبيا منخفضا مقارنة بتلك الدول، لكن المعضلة كما أوضح الدكتور الدبيخي تكمن في أن استخدام المركبة في التنقل في الرياض مثلا مرتفع جدا (92 في المائة)، فضلا عن طبيعة الطرق وأطوالها فالأمران معا يعززان ارتفاع استهلاك الوقود.
كل هذا الصداع الرقمي وغيره، بقدر ما يبرر ارتفاع معدل الاستهلاك بقدر ما ينفي علاقة انخفاض السعر بالاستهلاك العالي للوقود.. لتبقى حقيقة شاهقة فاقعة إزاء ذلك كله، تتمثل في كون بلادنا من أفقر بلاد العالم في وسائل النقل العام وبمضي عقود من الأزمنة تأسس سلوكنا مع المكان من خلال النقل الخاص بنسبة عالية جدا، فضلا عن أن غياب مرافئ الترفيه الاجتماعي كالسينما، المسرح، النوادي، الحدائق والمتنزهات، جعل التسكع في العربات في دروب المدن وشوارعها من حي إلى حي، ومن سوق تجاري إلى آخر (ظاهرة وطنية!) ليست محصورة على فئة الشباب وإنما تشمل غيرهم من الفئات.
وبالتالي فإن أي محاولة للحد من الاستهلاك العالي للبنزين بمجرد رفع سعره أو بالحد من استيراد السيارات أو برفع الرسوم عليها أو... أو.. سيعتبر قفزا على فقه الواقع وعلم اجتماعه، فضلا عن أنه سيبوء بالفشل، لكونه سيجعل فاتورة النقل الخاص فوق احتمال نسبة كبيرة جدا من المواطنين، ما يجعله غير قابل للتنفيذ وإلا اختار الناس الركون إلى منازلهم ما يعني (اقتصاديا!) انخفاض القوة الشرائية إلى الحضيض (مثلا) أو اختيار البطالة (مثلا) بدلا عن الذهاب إلى عمل يستنفد دخلهم في فاتورة النقل.. والأمر في هذا وذاك غير معقول!