ثقافة الانتشار العشوائي للقطاع الصيدلي الخاص
المراقب للسوق المحلية خلال الفترة الماضية يشاهد الانتشار غير المبرر للصيدليات الخاصة، فلا يكاد يخلو حي سكني من عدد كبير من الصيدليات التي تفوق الحاجة الفعلية إليها. هذا يوحي بأن سوق الدواء في المملكة تلقى رواجاً كبيراً وعليه فإن المنافسة في هذه السوق محتدمة، ما سيؤدي مستقبلا للتفريط في جودة ما يقدم من خدمة، مع الاختلاف الواضح في السلع. زيادة عدد الصيدليات التي قد انحصرت فيها المنافسة بين مجموعة من المؤسسات التي أخذت على عاتقها فتح المجال وإشعال الحرب فيما بينها، ستكون له آثار سلبية عديدة في الاقتصاد الوطني، وفي مستقبل مهنة الصيدلة، وقبل كل ذلك في صحة الإنسان في هذه البلاد.
من خلال بحثي عن الاشتراطات الواجب توافرها للترخيص لفتح صيدلية جديدة، وجدت أحد الشروط ينص على أن تبعد الصيدلية عن أي صيدلية أخرى 100 متر في كل الاتجاهات، لكن الملاحظ في هذه الفترة أن المنافسة بين هذه الصيدليات قد أٌلغيت من خلال الإخلال بهذا الشرط، حتى أنك لتجد أكثر من خمس صيدليات في مربع سكني واحد لا تبعد إحداها عن الأخرى تلك المسافة المشترطة. وعند سؤالي عن هذا الاشتراط عرفت أنه أُقر من فترة تزيد على 30 عاما. هذا يعني أنه قبل 30 عاما حينما كان عدد المستوصفات قليلا جداً وتوفر وسائل التنقل بين المناطق المختلفة داخل المدن قليلة أيضاًً، وعندما كان الناس يرتكزون في مساحات محددة ومتقاربة كان شرط 100 متر في كل الاتجاهات، ومع سهولة الحركة والتنقل وانتشار الأحياء السكنية وكثرة المستوصفات الخاصة فما زال الشرط نفسه لم يراجع أو يحدث.
كما أسمع أن قطاع الصيدليات ومستلزماتها يعيش فترة انتقالية ما بين سلطة وزارة الصحة وبدايات هيئة الغذاء والدواء، وكما علمت أيضا أن هذا القطاع سينتقل الإشراف والرقابة والترخيص عليه من يدي وزارة الصحة إلى هيئة الغذاء والدواء، وهذا انتقال جيد بحكم التخصص، ولكن هل ما نراه ونعيشه الآن من انتشار لهذا العدد الكبير من الصيدليات ذو علاقة بالفترة الانتقالية والمرونة أو عدم التدقيق في منح التراخيص.
أود أن أتساءل هنا، هل فعلاً أن الجهات المختصة في وزارة الصحة وبحكم أن هذا القطاع ستخرج الرقابة عليه من بين أيديها، تتغاضى أو تتسامح في إصدار التراخيص, أم أن هذا الأمر مدروس مسبقاً ونجهل فوائده غير المعلنة؟ أليس حرياً بالصحة وهيئة الغذاء والدواء أن تراجع القوانين السابقة، وأن تحرص على تحديث الاشتراطات الخاصة بالترخيص لمثل هذا النشاط وفقاً لمتطلبات ومعطيات الفترة التي نعيشها, أم أن كل الأمور تسير دون تخطيط لنواجه كما من المشكلات الطبية والاقتصادية والوظيفية في القريب من الزمان؟
عند الحديث عن انتشار الصيدليات وكثرة توالد فروعها، تتأتى لي أرتال من العيوب ربما نضطر لمواجهتها مستقبلاً على مختلف الأصعدة الاقتصادية، والوظيفية، والإنسانية، وهذا ما دعاني لمناقشة وطرح هذا الأمر في هذا المقال، مع العلم أني لا أرى الكثير من الحسنات للانتشار العددي للصيدليات الخاصة، وبحسبة بسيطة لو عادلنا مساوئ انتشار الصيدليات بهذا الشكل الذي تراه وبين ميزات هذا التوسع، لرجحت كفة المساوئ والعيوب.
ففي الجانب الاقتصادي من المعروف أن كثرة المعروض مع ثبات كمية الطلب قد تؤدي لانخفاض السعر، إلا في حالة مبيعات الصيدليات من الأدوية, حيث إن الأسعار ثابتة ومرخصة من الجهة المسؤولة عن تسعير الدواء للمستهلك. بل أرى أن زيادة مراكز البيع مع ثبات الأسعار ستؤثر في جودة المهنة والرقابة على ممارسة المهنة، ما سيقود إلى بيع أدوية دون الالتزام بالوصفات الطبية حتى ولو كانت هذه الأدوية خطيرة الاستخدام ودون وصفات طبية، صحيح أن النظام لا يجيز بيع الأدوية إلا بوصفة طبية وهذا ما نراه دائماً في كل الصيدليات، حيث تتم كتابة ذلك على لوحة صغيرة لا تكاد تتجاوز مقاس شاشة الكمبيوتر ذات القياس"19 إنش"، وتوضع غالبا في إحدى زوايا الموقع البعيدة عن العين، أو خلف أحد الأعمدة في منطقة لا يراها إلا ثاقب النظر، وهي غالبا ما تكون كلاما على الحائط لا يمت لواقع العمل في أغلب صيدلياتنا بشيء. من ناحية اقتصادية أخرى إن انتشار هذه الفروع الكثيرة لصيدليات محددة من شأنه تنمية جزء داخل القطاع الصيدلي، ما يؤدي إلى احتكار المهنة والمتاجرة فيها إلا من خلال هذه المؤسسات المحدودة. ومشكلة أخرى قد تبرز مستقبلاً عندما نعرف أن هذه المؤسسات تعمل على تطوير أصول غير ملموسة كالاسم والعلامة التجارية، وتحقيق الانتشار من خلال تعدد نقاط البيع، وهذه المؤسسات غالبا سيكون لها أهداف توسعية مستقبلية وقد تطمح إلى إدراجها في سوق الأسهم، ما سيترتب عليه الحاجة لتقييم أصول هذه الشركات الملموسة وغير الملموسة لتحديد علاوات الإصدار لها، وهنا سيقع التضليل على المستثمر المستقبلي في سوق الأسهم من خلال الحصول على تقييمات عالية لهذه الشركات. وهناك عديد من المشكلات الاقتصادية الأخرى قد تؤدي إلى ركود وفشل هذا القطاع مستقبلاً.
أما على المستوى الوظيفي وتشغيل أبناء الوطن، فإن هذه الصيدليات لا تسعى إلى توظيف الشباب السعودي لا في مهن الصيادلة أو مهن الصيادلة المساعدين إلا على الورق، ولم تلتق عيني مواطنا صيدليا يعمل في أي من هذه الصيدليات طيلة حياتي، مع العلم أن النظام لا يجيز فتح الصيدلية إلا لمتخصص. كثرة عدد الصيدليات فتحت الباب لاستقطاب صيادلة من دول أخرى للعمل فيها، وهذا التوسع غالباً يقود إلى قلة التركيز على جودة التأهيل التي يحصل عليها الصيدلي، إضافة إلى منافسة الوافد لأبنائنا والتي دائماً ما تصب في مصلحة الوافد الذي يتقاضى نصف أو ربع وربما أقل مما يتقاضى أو يحتاج ابن البلد. وعلى المستوى الاجتماعي أعتقد أن عدم عمل الصيدلي السعودي في الصيدليات الخاصة يحرم هذه المهنة من التقدير الاجتماعي المناسب، فنصف هذه المهن في هذا القطاع ضمن الوظائف التي لا يرتادها السعوديون مما يحرم الشباب مستقبلاً من العمل في هذا القطاع.
أما على المستوى الإنساني وهو الأهم، فإن توظيف بعض الصيادلة ممن لا يحملون هماً وطنياً سيؤدي إلى انخفاض مستوى الخدمة المقدمة، وغالبا ينتج عنه تساهل في صرف الأدوية دون وصفة طبية، وهذا ما حصل معي في بعض الصيدليات حتى إن الصيدلي يبدأ في تسويق أدوية ذات آثار جانبية ليستفيد الزائر من هذه التأثيرات الجانبية للدواء مع عدم التركيز على الغرض الأساسي للدواء، وليستفيد المسوق من قلة وعي مرتادي هذه الصيدليات ويحقق الكسب المادي. وفي كثير من الأحيان تتجه إلى صيدلية فيقوم الصيدلي بعرض أدوية مشابهة لكن بسعر أعلى بحجة عدم توافر الدواء الآخر، وغالباً عند وصفك لأعراض أي مرض يقوم الصيدلي بصرف الأدوية الأغلى تكلفةً ليعظم ربحيته على حساب مستوى المهنة وأحياناً على حساب صحة المريض.
مما سبق يتضح لنا الكثير من المساوئ لانتشار محال الصيدليات على حساب الصحة العامة وعلى حساب مستوى المهنة. الحديث هنا يجب أن يتجه لأحد أهم مقومات المهنة، وهو الانتشار المدروس والصحي للصيدليات في الأحياء، والمساهمة في توظيف قطاع كبير من أبناء الوطن وضمان العائد المجزي لهم، فلو تحدثنا عن وجود خمس صيدليات في مربع سكني واحد ينفق عليها الكثير من الأموال في توظيف صيادلة ومساعدين لهم، فلو اقتصر الأمر على صيدلية واحدة تؤدي الغرض ورُفع من خلاله العائد الشهري الذي يحصل عليه الصيدلي ومساعدوه، لأدى ذلك لفتح الباب أمام الصيدلي السعودي للعمل في هذا القطاع.
على مستوى المسؤولية الاجتماعية والتوعوية للصيادلة، من المعروف أن هذا القطاع يحقق أرباحاً جيدة من الاستثمار في هذا النشاط. ومن المسلم به كأحد الحقوق الأساسية الواجب منحها للمجتمع هو تقديم النصح والمشورة حتى ولو كان ذلك على حساب الكسب المادي، وهذا ما نفتقده إضافة إلى توعية المجتمع فيما يتعلق بمخاطر بعض الأدوية وطرق حفظها وغير ذلك.
ختاماً، هذا المقال لم أقصد منه الإساءة إلى أي شخص أو جهة ولكن الحاجة ماسة لتحديد المسؤول المباشر عن هذا القطاع بين وزارة الصحة وهيئة الغذاء والدواء، والمسارعة في تطوير ومراجعة القوانين لتتواءم مع الفترة التي نعيشها، مع التركيز على الجانب الإنساني للمهنة ودورها في الحفاظ على الصحة العامة دون النظر إلى المكاسب المادية التي تعد في هذا القطاع أقل أهمية من توفير الدواء والمشورة للجميع.