لعله من المناسب مراجعة أسعار الغاز

تمتلك السعودية من فضل الله كمية كبيرة من احتياطي الغاز، منها ما هو مصاحب للنفط ومرتبط بإنتاجه، وقسم آخر يُوجد في حقول مستقلة عن الحقول النفطية. ويبلغ مجموع احتياطي المملكة من الغاز على وجه التقريب 263 تريليون قدم مكعبة، ثلثاه من المصاحب. وتأتي المملكة في المرتبة الرابعة بعد روسيا وأمريكا وقطر. وكان لبُعد نظر المخلصين من أركان الدولة ـ حفظهم الله ـ اتخاذ القرار الحاسم والحكيم بعدم التفكير في تصدير الغاز إلى الخارج، بصرف النظر عن كمية الاحتياطي الثابت وجوده، واعتباره عنصرا من عناصر النهضة الصناعية في المملكة كلقيم وكمصدر للطاقة في المعامل والمصانع المحلية، إلى جانب توليد الطاقة الكهربائية. وكان من الحكمة وحسن التصرف آنذاك اتخاذ الجهات المسؤولة في الدولة قرار بيع الغاز إلى المستثمرين المحليين والشركاء الأجانب بسعر75 سنتاً لكل مليون وحدة حرارية، أو ب. ت. يُ، وهو ما كان يُعادل 50 في المائة من السعر العالمي للغاز في ذلك الوقت، من أجل تشجيع القطاع الخاص على بناء قاعدة صناعية قوية، وهو ما حدث فعلاً. وقد تضاعفت أسعار الغاز في السوق العالمية خلال السنوات الماضية عدة مرات حتى وصلت إلى أكثر من 13 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية، ثم تراجعت خلال الأزمة المالية الأخيرة إلى أربعة دولارات، قابلة للارتفاع في أي وقت. وبقي السعر المحلي على ما كان عليه دون تغيير. ومع استمرارية هذه المنحة السخية، فإن خزانة الدولة تفقد ملايين الدولارات يومياًّ لصالح مجموعة صغيرة من المواطنين والشركات الأجنبية.
واليوم، وبعد مرور أكثر من 30 عاماً على التمتع بهذه المكرمة الحكومية، لعله من المناسب أن يُنظر إلى هذه المسألة من وجهة نظر اقتصادية بحتة تخدم الصالح العام وتسهم في المحافظة على هذه الثروة الناضبة واستغلالها الاستغلال الأمثل ومحاولة الحد من الاستهلاك الكبير والهدر الذي عادة ما يُصاحب أي سلعة تكون قيمتها رخيصة. ونحن نعلم أن أول خطوة نحو رفع الأسعار لن تكون مهمة سهلة بعد مُضي أكثر من 30 سنة على وضع التسعيرة الأولى، وأنه لا بدَّ من بدء مفاوضات شاقة مع تحديد هدف معين وواضح، وهو ضرورة رفع السعر إلى مستويات معقولة حتى ولو كان ذلك على مراحل. وعلى الأطراف المستهلكة للغاز تفهُّم المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت خلال العقود الثلاثة الماضية وقبول مبدأ الأمر الواقع حتى ولو أدى ذلك إلى تقليص يسير في الأرباح التي اعتادوا الحصول عليها.
ونحن لا ندعو إلى رفع أسعار الغاز إلى المستويات العالمية مرة واحدة، بل وضع جدول زمني يضمن استمرار الربحية المعقولة لأصحاب المرافق التي تستهلك الغاز والتي قد تم فعلاً إنشاؤها. أما المشاريع المستقبلية التي تحتاج إلى الغاز كمادة لقيم أو وقود، فالأفضل أن يُباع عليهم بموجب الأسعار العالمية السائدة من البداية وتكون قابلة للزيادة إذا ارتفعت الأسعار، كما هو الحال بالنسبة لبيع النفط الخام في السوق الدولية. وعلى أصحاب المشاريع الجديدة أن يبنوا دراسة الجدوى الاقتصادية لمستقبل مشاريعهم على هذا الأساس. ومن المعلوم أن احتياطي الغاز محدود مهما بلغت كميته وقابل للنضوب مثل النفط والمياه الجوفية، ولذلك يجب ألا نكون في عجلة من أمرنا لإنضابه. أو بمعنى آخر، يجب ألا نفرط في إعطاء المحفزات من أجل التوسع قي إقامة الصناعات التي تعتمد إلى حدٍّ كبير على الغاز. ورفع الأسعار الذي نتحدث عنه يجب ألا يشمل الغاز السائل الذي يُستخدم كوقود في البيوت، والذي يمُسُّ حياة غالبية المواطنين.
ولو أخذنا مثالاً واحداً من المستهلكين للغاز يُبيِّن لنا ما يحصل نتيجة لتدني أسعار الغاز "ومشتقات النفط الأخرى" الذي تستهلكه شركة توليد الطاقة الكهربائية في المملكة ليتبيَّن لنا مدى الحاجة إلى تنظيم وتحديث الأسعار، حيث تكون أقرب إلى الواقع وإلى تحفيز ودفع الشركة لإيجاد البدائل المناسبة، ومن ثم التشجيع على المحافظة على ثرواتنا القابلة للنضوب. فنحن نرى أن يكون من أهدافنا الاستراتيجية تنويع مصادر الطاقة، بدلاً من الاعتماد كلياًّ على الطاقة المتولدة من المواد النفطية الناضبة، مثل استخدام الطاقة الشمسية. ولكن الشركة السعودية للكهرباء ليست لديها الدوافع الاقتصادية التي تجعلها تُفكِّر في الاستثمار في أي مصادر جديدة وهي تتسلَّم جميع ما تحتاج إليه من غاز ومشتقات نفطية أخرى بقيم زهيدة. ولو كان الوقود يُباع على الشركة بأسعار السوق الدولية الآنية، لكانت الجدوى الاقتصادية لصالح إنشاء محطات توليد الطاقة الكهربائية من الأشعة الشمسية. وإذا علمنا أن أسعار الغاز والمنتجات النفطية الأخرى على أبواب ارتفاع كبير، لكان ذلك دون شك مما يُعزز مكانة الاستثمار في الطاقة الشمسية لأنه سيُوفِّرُ لنا كميات هائلة من النفط والغاز من أجل مستقبل أولادنا وأحفادنا.
وهناك منْ سيُعارض فكرة رفع أسعار الغاز الذي يُستهلك في المرافق الصناعية على أساس أن ذلك يحدُّ من منافسة منتجاتنا في الأسواق العالمية، وهو منطق سليم ولا غُبار عليه. ولكنَّّ ذلك ليس مُبرِّراً لأن تفقد خزينة الدولة المبالغ الكبيرة من فرق الأسعار المحلية والدولية، خصوصاً أن المستفيدين المباشرين من التخفيض الحالي الكبير هم عدد قليل من المواطنين وشركات أجنبية، من المؤكد أنهم قد استعادوا أكثر من رؤوس أموالهم خلال الـ 30 سنة الماضية. ونحن نعتقد أن أي بضاعة تُصدَّر إلى الخارج وقد دخل في تصنيعها معونة حكومية بأي شكل من الأشكال، سواء كان ذلك على هيئة تخفيض في أسعار المواد المحلية أو استغلال للسلع التي تتلقى معونة من الدولة أو أي تسهيلات أخرى ذات قيمة نقدية، يجب أن تخضع لمراجعة دقيقة من قِبل الجهات المسؤولة للتأكد من أن المردود العام على الاقتصاد الوطني إيجابياّ.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي