الإفلاس.. واعتبارات المصلحة العامة
أشهرت "جنرال موتورز" إفلاسها في نيويورك الأسبوع الماضي في ثالث أضخم قضية إفلاس في تاريخ الولايات المتحدة بعد "ليمان براذرز" و"ورلد كوم" من حيث الحجم. شملت عملية إشهار الإفلاس إنشاء شركة جديدة لشراء أفضل أصول جنرال موتورز، وإعادة هيكل الملكية بما سينتج عن تركيبة ملكية جديدة.
اندرجت عملية إشهار الإفلاس تحت مظلة قضية الفصل الـ 11 من قانون الحماية من الإفلاس. يندرج هذا القانون ضمن القانون التجاري لمعظم دول العالم. وعلى الرغم من تباين وجهات النظر حول عدالة هذا القانون من منظور الدائنين والمدانين، إلا أن وجوده شكل آلية قضائية واضحة لأعين المؤسسات والشركات التجارية.
تزامن إعلان إفلاس جنرال موتورز مع حديث في الأوساط المالية الخليجية حول تحديات مماثلة تواجه مؤسسات وشركات خليجية. وعلى الرغم من عدم وجود قانون الحماية من الإفلاس في القانون التجاري الخليجي، بشكل عام، والسعودي، بشكل خاص، إلا أن تاريخ القانون التجاري السعودي يحمل في طياته مجموعة من الآليات القانونية التي أثبتت فعاليتها على المدى الطويل.
تعتبر عملية تصفية البنك الوطني في 1960 من أهم الأزمات المالية التي حلت بالقطاع المصرفي السعودي. تأسس البنك كشركة مساهمة سعودية في 1957 برأسمال عشرة ملايين ريال، وبدأ نشاطه من خلال فرعين في الرياض وجدة.
كانت البداية مشجعة لمضاعفة رأسمال البنك بعد عامين من بداية التشغيل، ومتزامنا مع ظهور محفزات في الاقتصاد السعودي، من أهمها انخفاض معدل التضخم، وزيادة مستوى الاحتياط المحلي، وصدور الريال السعودي كعملة وطنية.
بدأت أزمة البنك الوطني تطفو على سطح الاقتصاد السعودي عندما حدثت استقالات مفاجئة لعدد من فريق الإدارة التنفيذية. لم يكن أمام البنك سوى مراجعة الوضع المالي للبنك، كإجراء احترازي لتفادي أي أزمة مالية. صدرت نتائج المراجعة وفي طياتها مفاجآت مفادها خلو البنك من السيولة النقدية، وتراكم التزامات مالية كبيرة لبنوك أجنبية ولودائع محلية.
قامت مؤسسة النقد العربي السعودي بإجراء التحقيقات اللازمة لمعرفة الوضع المالي للبنك ومسببات الأزمة. أوضحت نتائج التحقيقات تقديم البنك تسهيلات مالية دون أخذ الضمانات الكافية. قررت مؤسسة النقد العربي السعودي عند ذلك تصفية البنك، ودمج موجوداته ومطلوباته وأعماله مع بنك الرياض.
استندت عملية التصفية إلى قرار وزاري يخول مؤسسة النقد العربي السعودي باتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لدمج موجودات ومطلوبات وأعمال البنك الوطني مع بنك الرياض، مع التفويض بضخ السيولة النقدية اللازمة لمساعدة بنك الرياض على أداء دوره خلال المرحلة الانتقالية المقبلة.
لم تكن عملية تصفية البنك الوطني ودمجه مع بنك الرياض سوى بداية تدعيم أسس القطاع المصرفي وترسية أركانه. أسهم هذا الإجراء، وما تبعه من إجراءات طيلة نصف القرن الميلادي الماضي في تنمية واستدامة القطاع المصرفي، بشكل خاص، والاقتصاد السعودي، بشكل عام.
حيث واصل القطاع المصرفي تطوراته بعد من خلال الاستجابة لمتطلبات الخطط الخمسية بما يمليه عليه دوره في تقديم الخدمات والمنتجات التمويلية والاستثمارية اللازمة. من أهم هذه التطورات إصدار نظام مراقبة البنوك، وسعودة البنوك العاملة في المملكة، وزيادة عدد البنوك الوطنية، وأحكام حوكمة مؤسسة النقد العربي السعودي على البنوك العاملة.
تحمل تجربة تصفية البنك الوطني عديدا من الدروس في آليات التعامل مع التحديات المالية، بشكل خاص، والمصرفية، بشكل خاص، من خلال أدوات قانونية حديثة لم تكن يعهدها الاقتصاد السعودي من قبل.
تتداول الأوساط الاقتصادية الخليجية تحديات مالية قائمة تواجه مجموعة من المؤسسات والشركات الخليجية. تدور هذه التحديات حول حلول تسديد القروض، وإساءة استخدامها وإدارتها.
وعلى الرغم من الإجراءات القانونية التي من المزمع إتباعها للتعامل مع مثل هذه التحديات، إلا أنه يجب التوكيد على أهمية النظر إلى جميع الأطراف ذات العلاقة في مثل هذه التحديات. فآلية التعامل مع تحديات الدائنين من الأهمية بمكان ألا تأخذ في الحسبان الالتزامات المالية للدائنين فحسب، وإنما تأخذ في الحسبان كذلك المصلحة العامة للاقتصاد الخليجي، بشكل عام، والسعودي، بشكل خاص.