التجارة.. وقلة الرجالة!
ما إن قرأت الخبر الموسع الذي نشرته هذه الجريدة يوم الثلاثاء الماضي عن أن وزارة التجارة والصناعة تدرس السماح لرجال الأعمال بالمشاركة في إدارة أكثر من خمس شركات، حتى وجدتني أتساءل وعلى طريقة أشقائنا في مصر: (ليه.. من قلة الرجالة في البلد؟!).
طبعا لا يتجه هذا القول إلى المساس بقدر ومقام رجال الأعمال الأفاضل ودورهم الجوهري في إثراء اقتصاد الوطن وصناعة التنمية وإنما ينطلق من كون الشركات، سواء في القطاع الخاص أو في القطاع الحكومي استثمارا وطنيا، فتحت له الدولة بيئة النفاذ، وأنها ناتج اجتماعي جاء محصلة لتقاطع الثروة البشرية مع الثروة الطبيعية، وبالتالي فالاقتصاد المتحقق منها هو في النهاية اقتصاد وطني، لا يمكن زيادة عرضه وعمقه إلا بتوسيع نطاق المشاركة في صنعه على مستوى الإدارة والتنفيذ، وأن ذلك بالتالي هو ضمانة صيانته وما يؤدي إلى السلامة في توزيع موارده وتجنيبه مغبة الانزلاق إلى هيمنة إدارة شبكة العلاقات الخاصة عليه، التي عادة ما تزداد مع الزمن قناعة بكفاءتها وامتيازاتها، كما تزداد عزلة بإحساسها بنخبويتها لتقترب من الحالة الرومانية .. وهذا فظيع.
إن السماح لرجال الأعمال بإدارة (أكثر) من خمس شركات يعني أن (الرقم)، لا يقف عند حد، كما أنه يعني استنجادا ببيروقراطية العمل الحكومي لتمرير هذا النهج في القطاع الخاص ما يؤدي إلى إغلاق الدائرة على عدد محدود من القيادات الإدارية (هم فقط رجال الأعمال)، ـ كما سبقت الإشارة ـ لتصبح بذلك مجالس الإدارات محتكرة تتيسر لهم فيها المعلومات كما يتبادلون فيها الكراسي بصورة (مؤبدة!!) وهذا عملياً هو (الإقصاء) للغير عن سدة الإدارة ـ مهما كان التأهيل والكفاءة - إلا بشق النفس وبذل النفيس (!!) علاوة على أنه نهج يكرس نمطا محددا من العقلية الإدارية التي قد تؤدي إما إلى تحنط الأداء وتخثر الدم في مفاصل العمل أو قد تكون مدعاة لتسرب التواطؤ وغض النظر وربما سياسة: (أمسك لي وأقطع لك!!) فنكون بذلك عملنا تماماً عكس ما استهدفته استراتيجية محاربة الفساد وحماية النزاهة، ونكون بذلك أيضا لم نتعلم الدرس من فضائح الأزمة المالية العالمية في أمريكا وأوروبا!!
على نحو آخر تشير التجارب إلى أن رجال الأعمال غالبا ما يكونون مشغولين بإدارة أعمالهم الخاصة مما يحد من فاعلية تركيزهم ومبادراتهم للعناية بتفعيل أداء الشركة وتطويرها، فضلا عن التغيب عن اجتماعات مجالس الإدارات والاتكال على من يكمل النصاب من الزملاء!!
كما تشير التجارب أيضا إلى أن معظم المساهمين (من غير رجال الأعمال) لا يحضرون انعقاد الجمعيات العمومية، الأمر الذي يجعل الترشيحات تؤول لصالح حملة الأسهم الكبيرة، الذين هم عادة رجال الأعمال، ليصبحوا هم أعضاء مجلس الإدارة، فيما يبقى السواد الأعظم من المساهمين بلا تمثيل تقريبا.
لذا.. فإنه حين يتم السماح لرجال الأعمال بإدارة (أكثر!) من خمس شركات فذلك يعد تكريسا لاستفراد رجال الأعمال بمجالس الإدارات، كما يعد تكريسا لتغييب حق السواد الأعظم من المساهمين الآخرين فيمن يمثلهم في مجلس الإدارة، إضافة إلى أن هذا النهج يشكل إعطابا لمعايير الحوكمة والشفافية وتنمية القوى العاملة.
وما دام الأمر كذلك، وهو كذلك بالفعل، يصبح الحد من شهية الاندفاع في هذا الاتجاه، مسألة تقتضيها مصلحة الشركات نفسها، وذلك بإدخال عدد من الأعضاء المستقلين يمثلون القطاع العريض من حملة الأسهم ليمثل ثقلهم عدديا ونوعيا ضمانة لإدارة الشركات، بما يخدم استثماراتها ومصالح المساهمين جميعا على أسس سليمة تتسق تماما مع معزوفات نظام حوكمة الشركات ومعايير الشفافية، ومشاركة القوى الوطنية الكفوءة.