رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


مستقبل الاقتصاد السعودي في ظل الثقافة الاستهلاكية السائدة

يقول لي أحد الأصدقاء إن دخله الذي تجاوز 15 ألف ريال لا يحقق له العيش الكريم وأنه يعاني معاناة شديدة في تنظيم أموره المالية لتلبية احتياجاته الشخصية واحتياجات الأسرة وأن الديون التي اقترضها من البنك أو من الأصدقاء تضيق الخناق عليه، ويضيف أنه على علم تام بأن الوضع الذي يعيشه رغم ارتفاع دخله ما هو إلا نتاج متطلبات غير منطقية فرضتها الثقافة الاستهلاكية في بلادنا والتي قفزت إلى الأعلى بشكل كبير أيام الطفرة الاقتصادية الأولى ولم تعد إلى درجة متوازنة معقولة رغم انحسار الطفرة.
وأقول نعم إننا أتقنا فنون الاستهلاك والمباهاة في الاستهلاك حتى بتنا نصرف الكثير من المال بشكل غير مبرر على ما لا نستخدمه أو نستفيد منه أو ما هو فوق طاقتنا، ولكننا لم نتقن الموازنة بين فنون الإنتاج وفنون الاستهلاك دون إسراف حتى بتنا نوصف كأسواق استهلاكية يستهدفها منتجو السلع والخدمات من أنحاء العالم كافة، وبكل تأكيد لو أخرجنا الإنتاج النفطي وهو منتج طبيعي من معادلة الإنتاج والاستهلاك لاتضح لنا حجم المشكلة التي نعيشها، وهو ما يجعلنا دائما وأبدا معلقين بأسعار النفط لا بقوة أسواقنا.
يقول علماء الاجتماع إن الارتفاع السريع في الدخل يقابله انخفاض سريع أيضا في منظومة القيم والمفاهيم الإنتاجية والاستهلاكية السليمة، وهو ما حدث لكل المجتمعات النفطية عند ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات حيث تخلت تلك المجتمعات عن قيم ومفاهيم الآباء والأجداد الإنتاجية والاستهلاكية فأصبح الإنتاج الذي كان يفخر به الآباء والأجداد في بعض المهن عارا والاستهلاك غير المبرر لكثير من السلع والخدمات وبشكل إسرافي ينهى عنه ديننا الحنيف مدعاة للفخر والمباهاة، ولا شك أن وضعا كهذا يعد وضعا مختلا يخالف كل قواعد الاستدامة التي تسعى كل المجتمعات لتحقيقها إذ لا يمكن لمجتمع استهلاكي يعتمد على ثروة ناضبة ومتقلبة الأسعار تحقيق الاستدامة الاقتصادية وما يترتب عليها دون معالجة لهذه الاختلالات.
إذن ما رسخ من عادات استهلاكية وقت الطفرة أصبح واقعا ثابتا لا نرغب بتغيره فحجم المسكن ومكوناته وأثاثه، ووسائل النقل وكمها وأنواعها، وكم ونوع الكماليات الترفيهية والتجميلية والتواصلية وغيرها، وكم ونوع الأغذية والملابس، وكم ونوع خدم المنازل إلى غير ذلك أصبحت ثوابت لا يمكن التنازل عنها وإن تغيرت أحوالنا الاقتصادية، فنحن لا نقبل أقل مما وصلنا إليه وإن تغيرت إيراداتنا وتفاقمت مشاكلنا، وعلى الحكومة وأجهزتها العمل على حل هذه المشكلات وتوفير جميع متطلباتنا الاستهلاكية حتى وإن كانت جائرة وتفوق المعدلات العالمية بما في الدول الأكثر غنى وإن كنا لا نستخدم أو لا نستفيد مما نشتري أو نرمي نصفه في الزبالة أجلكم الله.
أسرة مكونة من زوج وزوجة وطفلين لا يمكن أن تحل مشكلتها الإسكانية شقة بغرفتين أو ثلاث غرف وصالة لأن السعودي لا يمكن أن يشتري إلا فيلا، إذ إننا لا نتخيًل أن يكون مسكن العمر إلا فيلا لأن الحكومة أيام الطفرة كانت توزع أرضا مناسبة وقرضا سريعا يكفي للبناء واعتدنا على ذلك وهو ما لا يمكن تغييره، نعم نؤجر شقة وندفع الإيجار لمدة تصل لأكثر من 20 عاما، ولكن لا نشتري شقة بقسط شهري معقول لأن منزل العمر يجب أن يكون فيلا وإن كانت بعيدة المنال عند مقارنة الدخل بالتكاليف ورؤية أكثر من 500 ألف طلب في سجلات صندوق التنمية العقاري للحصول على قرض لم يعد يكفي لبناء عظم الفيلا المستهدفة فقط، والأمثلة كثيرة في المجالات الأخرى ولا مجال لحصرها هنا.
والسؤال الذي يدور في ذهني هو: على أي قاعدة نخطط لاقتصاد بلادنا مستقبلا؟ فهل نضع الخطط الاقتصادية على قاعدة ضرورة تمكين المواطن من الحصول على ما اعتاد عليه أيام الطفرة؟ أم نضع الخطط على قاعدة ضرورة تغير العادات الاستهلاكية إلى ما هو معقول ومتوافق مع التغيرات الاقتصادية؟ وأعتقد إذا كان الخيار الأول هو الصحيح فإننا سنعاني معاناة كبيرة وندخل في متاهات لا قبل لنا بها ونحمل اقتصادنا ما لا طاقة له بها وإن ضاعفنا إيراداتنا النفطية، وهو خيار لم تأخذ به أي دولة بما في ذلك الدول الغنية، ولكم أن تتخيلوا الارتباك الذي ينتظرنا والأوقات الطويلة التي يجب أن ينتظرها البعض للحصول إلى ما يصبون إليه من رفاهية فضلا عن العجز في الموازنة العامة وموازنات الأجهزة الحكومية والشركات شبه الحكومية.
ولا أدل على ذلك من مشكلة كميات البنزين التي تستهلك في بلادنا بشكل كبير وغير مبرر نتيجة انخفاض أسعاره مقارنة ببقية دول العالم حتى الدول التي حولنا رغبة من الحكومة بتوفيره بأسعار معقولة للمواطن والمقيم في البلاد لتخفيف آثار التضخم عامي 2007م/ 2008م، والنتيجة وللأسف الشديد استهلاك جائر وإسراف في استخدام وسائل النقل لحاجة أو دون حاجة، وأعتقد أن شركة أرامكو تفكر اليوم جديا في رفع الأسعار لمواجهة الخسائر الكبيرة التي تلحق بها نتيجة بيع المحروقات بأسعار تقل عن تكلفة تكريرها وتسويقها.
أعتقد أن مستقبل الاقتصاد السعودي ومعالجة قضاياه ومشاكله في سبيل تحقيق الأهداف التنموية الشاملة والمستدامة يستدعي من جميع القائمين على الأجهزة الحكومية التخطيط على القاعدة التي تقول بضرورة تغيير العادات الاستهلاكية في مجالات الاستهلاك كافة (الإسكان، الغذاء، الطاقة، الماء، النقل، والسفر... إلخ) بما يتواءم والمتغيرات الاقتصادية المحلية والإقليمية والعالمية لنتمكن من توفير سبل الحياة الكريمة النسبية للمواطن والمقيم لا تلك التي كانت أيام الطفرة رغم أفولها، وإلا فإن مستقبل اقتصادنا سيكون غير مطمئن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي