متى يحاسب المسؤولون أنفسهم؟
كتبت في هذه المساحة الممنوحة لي في 11/5/1430هـ الموافق 6/5/2009م تحت عنوان "عقاريونا يبيعون السراب مع التراب"، ولاحظت أن ردود الفعل متباينة ومتفاعلة مع ما كُتب، وكأننا ضربنا على وتر حساس لكل مواطن مع قضية السكن والمسكن، وإن كنا قد تحدثنا عن العقاريين على سبيل المثال لا الحصر في قضية فساد القطاع الخاص الذي في ظني بدأت اليوم أكثر ذكاء وتنوعاً ويبدو أنه في طريقه لأن يكون فسادا نظاميا (ومنظما) يصعب إثبات وقوعه! فالكثيرون علقوا إما عبر موقع الجريدة وإما من خلال رسائل نصية عبر الجوال أو تعليقات شخصية من قبل بعض من أثق به ويثقون بي. وفي كل الأحوال أشكر كل من علق إيجاباً أو سلباً!!
وعنوان مقال اليوم في سياق المقال السابق نفسه، وإن كان بكل تأكيد ليس دعوة لانتحار هؤلاء المفسدين، أينما كانوا في الوطن العربي الكبير، فالحياة بالنسبة لهم أهم من أن يفكروا أصلاً، فليس لديهم وقت لأن يضيعوه في التفكير! وليس تمنيا أو ترحيبا بالفكرة كعلاج لمشكلة. فالدين الإسلامي لا يقر هذه التصرفات وقد توعد مرتكبيها بجهنم خالدين مخلدين فيها، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكد دخول صحابي جهنم وهو جريح في معركة دفاعه عن الإسلام بعد أن استعجل موته من شدة الألم، عندما طعن نفسه بسيفه. مع أني أشك أن إسلام هؤلاء المفسدين العرب هو ما يمنعهم من التفكير في الانتحار! لكنها ملاحظة على كل حال، فلم نسمع عن حالات كثيرة من الانتحاريين الذين تورطوا في قضايا فساد على غرار بعض الثقافات الأخرى! في حين رأينا مَن (ينتحر) من المسلمين وينحر معه مئات (مسلمين) أيضاً ولا نزال نشاهدهم، لمجرد قناعات ما أنزل الله بها من سلطان! أنا شخصياً لم أسمع عن مفسد عربي انتحر بعد أن كشف أمره، بل إن البعض منهم يستميت في الدفاع حتى وإن كان دم إفساده لا يزال يسيل على يديه! وقد يكون بسبب أن كثيرا منهم في مأمن إلا من يصل به الغباء إلى مرحلة الإشهار بنفسه كقضية مقتل سوزان تميم التي تداخل فيها المال والنفوذ القوي مع عفن الفن القذر! وهو ثالوث خطير إذا ما تفاعل مع بعضه بعضاً.
لكن السؤال جاء وسيظل يتردد بشكل مستمر: ما دام الوطن العربي الكبير يرزح تحت وطأة الفساد الكبير على غرار قصة مشروع ماء السبيل العظيم، الذي يعد العامل الأول في فشل محاولات الإصلاح المخلصة لكثير ممن عرفنا عنهم من صدق وإخلاص في خدمة أوطانهم من مسؤولين رسميين وقطاع خاص، ولكن "الشق أكبر من الرقعة" كما يقال في المثل الشعبي، ولو لم أكن سوداوي الفكر، لقلت إن (الرقعة) باتت سراباً، في ظل (الشقوق) في كل (رقعة). المشكلة أكبر من إمكانية إصلاحها حجماً وتعقيداً نتيجة تداخل عناصر كثيرة في بنية المجتمع وتركيبته التي هي في حاجة لإصلاح جذري من الأساس، كما قال ابن خلدون في مقدمته.
السؤال إذن: متى ينتحر أول مسؤول عربي فاسد؟ لا أدري! ولست أدري! ليست على طريقة إيليا أبو ماضي الفاقد لغائية الوجود، لكنها على طريقتي المستبعدة لحدوث المستحيل! لكن حينها، سنبدأ بالتفاؤل بمستقبل واعد! فموت الظالم رحمة للعالمين! والمفسد ظالم! والمخرب في الأرض والساعي فساداً فيها كذلك! لذا، جاء النذير (بالتقتيل)، لا بالقتل!
بانت نواجذي وأنا أقرأ تعريفا لراغب الأصفهاني للفساد، حينما قال عنه خروج الشيء عن الاعتدال، قليلا كان الخروج أو كثيراً! ففسادنا بات (عالمياً)! أرقام الفساد والإفساد كبيرة، وأكبر دليل على حجم هذا الفساد عدم وجود أرقام دقيقة عنه في الوطن العربي، وفي بعض الأحيان الأرقام تكون دليل صحة وعافية وليست فسادا وعلة، ذلك عندما نوجد بشكل علمي ومهني معلومات عن هذا الداء المسمي "الفساد"، لأنه لا يوجد مجتمع ملائكي فنحن نعيش على الأرض "الدنيا"! . ولكنها أرقام كثيرة تختلف باختلاف جهات التقارير والجهة الصادرة عنها التقارير! الغريب أننا نتناقل أخبار الفساد من المجتمعين الغربي والآسيوي بشكل يوحي بأن الأمر لا يعنينا! فقد شاهد الجميع وقرأ عن الاستقالات بالجملة في بريطانيا أخيراً بسبب تقارير "غير رسمية" تتحدث عن فساد بعض أعضاء البرلمان والحكومة في بعض المصاريف. فوزير دفع من المال العام ثمانية آلاف جنيه استرليني على ما ذكر في "تزيين" الحديقة الخلفية لمنزله، واضطر بسبب تلك التقارير إلى الاستقالة حتى ينتهي التحقيق! لاحظوا الاستقالة على شبهة وليس حكما نهائيا. يعني يمكن أن يكون الوزير بريئا! وآخر أعطى عقدا بسيطا لأخ له، من منطلق (الأقربون أولى بالمعروف)، وكذلك اضطر للاستقالة، رغم أن أخاه يعمل في هذا المجال والعقد سينفذ بأخيه أو بغيره! قلت مساكين هؤلاء الخواجات، فاهمون الفساد خطأ!! كم مسؤول استقال بمجرد الشبهة.
أما في شرق وجنوب آسيا فالصورة مختلفة، ففي كثير من حالات الفساد وكلما كانت في مستويات عليا من الإدارة، سواء في القطاع العام أو الخاص تكون النتيجة الغالبة هي الانتحار. فقد أقدم رئيس كوريا الجنوبية السابق على الانتحار أخيراً عبر رمي نفسه من فوق جبل بعد توجيه تهم الفساد له ولزوجته. فقلت لله درك ما أشرفك وإن سرقت! فقد حكم على نفسه وهذا بحد ذاته رقي في الشخصية والتفكير، فما دام كشف أمره عليه أن يتوارى ويغسل عار فساده، وإن كنا لا نتفق على طريقة العقاب. ومسألة الانتحار في الشرق والجنوب الآسيوي ثقافة غسل عار نتيجة خطأ أو هفوة، فهو مجتمع يسعى للكمال بشكل عجيب، وبالذات في تحقيق الطموحات الشخصية لأفراده التي بدورها تنعكس على تقدم المجتمعات، وأصبح شبه شائع أن نسمع كثيرا في اليابان وكوريا الجنوبية والصين عن حالات انتحار، ليس بسبب غياب الحبيب أو المخدرات أو أنه قُتل وأخرجت على أنها عملية انتحار. ولكن بسبب هروب من خطأ أُرتكب أو فساد وقع. ولهذا لم يأذن الرحالة البرتغاليون الذين بعثوا لتقييم قوة العالم الإسلامي لحكوماتهم باقتحام العالم الإسلامي إلا عندما وجدوا المسلم يبكي على حبيبته الضائعة وليس دينه المُضيع ومجتمعة المغيب! نحن بحاجة لمقدمة (خلدونية) حديثة تشخص وتصنف لنا حال الفساد، أو إن شئتم، حالنا! والله من وراء القصد.