حتى لا تتعامل شركات التأمين لدينا بالحديد أو الخشب
تذكرني صناعة التأمين في المملكة بالصناعة المصرفية حينما دخلت المملكة في عام 1345 هـ (1926)، وذلك عن طريق افتتاح بعض الفروع لبنوك أجنبية في المنطقتين الشرقية والغربية للمملكة. وكان الهدف الأساس للبنوك حينها هو تقديم الخدمات المصرفية للحجاج الوافدين إلى المملكة وخاصة الحجاج الإندونيسيّين. ومنذ دخول النشاط المصرفي المملكة ولحد الآن، وبالرغم أيضاً من التطور الكبير الذي وصل إليه العمل المصرفي إلا أن التأثير في هذه الصناعة المصرفية العالمية من جانبنا لم يكن بالمستوى المطلوب، بل إن المصرفية الإسلامية التي كثُر الحديث عنها في السنوات الأخيرة لم تكن أكثر من عمليات تجميل لمنتجات خدمية معتمدة بشكل كبير على فلسفة العمل المصرفي الغربي القائم على فكرة أساسية وهي الائتمان المعتمد على الإقراض والأجل والفائدة.
وإذا تأملنا القواعد الشرعية لوجدنا أن الإسلام شديد الحساسية فيما يخص التعامل المالي المقترن بأجل. فالأصل هو التعامل الحالّ أو الحاضر. ولقد نُصّ بالقرآن الكريم على كتابة وتوثيق الدين وذلك كي لا يدفع المدين أكثر مما يجب فيدخل في المحظور، ونحن نعلم جميعاً أن القرض في الإسلام إذا ارتبط بأجل فهو قرض حسن حيث لا ينبغي للمُقرض أن يأخذ أكثر مما دفع. ولذلك فالإقراض في الإسلام لا يعد من قبيل التجارة على عكس ما هو معمول به في الغرب حيث يعد الإقراض صلب العمل المصرفي التجاري. ومن هنا أرى أن المصرفية الإسلامية التي يدعو إليها البعض ويستميت البعض الآخر في الدفاع عنها قامت في الأساس على تبرير الإقراض بأجل وبربح من خلال إقحام عقود أخرى في العمل المصرفي، بحيث أصبحت البنوك تمارس صفقات لا تنسجم مع نشاطها الطبيعي مثل ظهورها بمظهر البائع أو السمسار أو الوكيل أحيانا ليتعامل البنك في النهاية بسلع غريبة على نشاطه المرخص له من "ساما"، كالتعامل بالحديد والسيارات وما إلى ذلك. ولقد أصبح مألوفاً لدينا أن صفقة مع العميل لا تستغرق أكثر من رشفة فنجان، حيث لا هم للعميل سوى الحصول على القرض وفقاً لما قيل له إنه قرض (بصيغة إسلامية).
وإذا كان هذا هو حال العمل المصرفي الإسلامي، فالعمل التأميني ليس ببعيد أيضاً عن مثل هذه المحاولات التي تعتمد في الأساس على مقولة إن التأمين حرام وإنه يمكن إزالة هذا الحرام من خلال عمل وصفة إسلامية خاصة. وأنا من ناحيتي أرى أن الوصول إلى خلق صناعة تأمين إسلامية سعودية ممكن حتى وإن اختلفت مع من يرى حرمة التأمين، ولكن بشرط فهم واقع التأمين في المملكة وفنياته وإيجاد انسجام وتناغم بين الرؤية الشرعية للتأمين والأنظمة التي يتم إصدارها في هذا الشأن، ومن ثم تحقيق الانسجام مع قواعد صناعة التأمين العالمية. ولنعترف بأن فتوى من أربعة أو خمسة أسطر لا يمكن لها أن تؤسس لعمل تأميني إسلامي سعودي حقيقي. هذا إضافة إلى أن التصورات أو التخيلات غير المنطقية لا يمكن لها أن تخلق صناعة تأمين سعودية حقيقية. وأكاد أجزم بأننا لو تركنا الأمر لمخيلتنا ورؤانا الشخصية لوصلنا إلى النتيجة نفسها بالنسبة للعمل المصرفي الإسلامي، وقد يظهر لنا في النهاية من يقول إنه طالما أن الطمأنينة التي يحصل عليها عميل شركة التأمين لا تعد سلعة تباع وتشترى فالسلع الشرعية الأخرى موجودة وتفي بالغرض حتى وإن كان العميل لا يريدها ولم يقصد أن يتعامل بها أصلاً، وقد لا يبدو غريباً في يوم من الأيام أن تظهر لنا شركة تأمين تبيع وتتاجر بالحديد أو حتى بالخشب.