رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


من الاقتصاد السياسي إلى علم الاقتصاد

فهمُ السابقين من القرون الأولى للدين وآرائهم في العقيدة والتفسير والفقه تفوق في الأهمية والقيمة آراء من جاء بعدهم. هذا الوضع لا ينطبق على العلوم والأفكار والنظم التي مصدرها الكون وليس الوحي، فهذه العلوم في تطور مستمر، وأبحاثها المنشورة في المجلات العلمية تقل في الغالب أهميتها وقيمتها مع مضي الوقت. ولذا فإنه ينبغي – عند تقييم العلوم الكونية كالاقتصاد - أن يستشهد بالمعايير والأصول والآراء والنظريات التي تعبر عن التفكير السائد فيها الآن، وليس القرن التاسع عشر، مثلا.
كان علم الاقتصاد في بدايات نشوئه يسمى الاقتصاد السياسي، وقد كانت الكتابات فيه عبارة عن خليط بين مناقشات عقلية سببية تحاول في المقام الأول فهم كيف يعمل الاقتصاد، ومناقشات ذات طابع فلسفي فكري ممزوجة بطابع حقوقي قانوني. ومع الوقت طغى الجانب الأول (فهم كيف يعمل الاقتصاد)، بما ميز علم الاقتصاد عن علوم أخرى. ويظهر هذا التميز جليا بمنهج وفعل عدد من كبار علماء الاقتصاد في القرن الماضي (وعلى رأسهم كينز)، عندما انتقدوا نظريات آدم سميث وغيره من المنسوبين إلى المدرسة الكلاسيكية التي كانت هي السائدة إلى نحو عقد الثلاثينيات من ثلث القرن الماضي، فإن لب انتقادات كينز (مثلا) لآراء اقتصاديي القرن التاسع عشر انصبت على مناقشة التعليل والسببية وما يراه (كينز) من سوء فهم الكلاسيكيين لكيفية عمل الاقتصاد.
وهذا مثال مختصر وبسيط يشير إلى خلاف في فهم كيفية عمل الاقتصاد: مر بالغرب الكساد الكبير في نهاية الثلث الأول من القرن العشرين الميلادي، وشاع وقتها أن ذلك الكساد نتيجة انهيار سوق الأسهم في تشرين الأول (أكتوبر) 1929، من جراء الفقاعة التي صنعها المضاربون. ثم جاء الاقتصاديان فريدمان وشوارتز، وقاما بدراسة التاريخ النقدي للولايات المتحدة خلال الفترة 1867- 1960، وركزا على الفترة 1929 -1933، وتوصلا إلى أن الكساد الكبير لم يحدث بالضرورة نتيجة مباشرة لانهيار سوق الأسهم في أكتوبر 1929. الاختبار الدقيق بين أن عرض النقود قد انخفض حقيقة بنسبة 27 في المائة خلال الفترة 1929-1933، وهذا الانخفاض بدوره تسبب في انخفاض حاد في الطلب الكلي (على السلع والخدمات) في الاقتصاد الأمريكي. انهارت نسبة كبيرة من البنوك وضاع جزء كبير من مدخرات الناس، وتسبب ذلك في موجه ذعر وجنوح لمزيد من الادخار، ما زاد من تدني الطلب الكلي. وكان ذلك عاملا أساسيا في انخفاض الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بنسبة 29 في المائة في عام 1933 مقارنة بعام 1929. كما وصل معدل البطالة إلى قرابة 25 في المائة.
بالمقارنة، يلحظ أن انتقادات كثرة من المصنفين في الاقتصاد الإسلامي، وخاصة من الرعيل الأول، تدور حول القضايا ذات الطابع القانوني والفكري في كتابات الاقتصاديين، وخاصة الكلاسيكيين، وهي جوانب ليست من صميم اهتمامات علم الاقتصاد، بغض النظر عن الرأي فيها.
لو أردنا التعرف على علوم كثيرة لازمة للحضارة والمدنية المعاصرة من خلال الاستناد إلى أفكار ونظريات قيلت في الماضي لصرنا في مشكلة. بل لوصل بنا الأمر إلى تحريم بعض هذه العلوم والتخصصات، لأنها خلطت في الماضي بين حق وباطل، وبين تعليم المشروع وتعليم غير المشروع، أو بدأ تطورها على تعليم ما هو غير مشروع، وربما كانت الكيمياء أوضح مثال، وهو علم لا تقوم العلوم والتخصصات التجريبية التطبيقية كالطب والصيدلة والصناعات المعاصرة بدونه. فكيف كانت حالته في الماضي؟ نجد الجواب عند الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ.
يقول ابن تيمية في فتاواه تحت باب الحسبة، أثناء حديثه عن الغش: "ومن هؤلاء ‏[‏الكيماوية‏]‏ الذين يغشون النقود والجواهر والعطر وغير ذلك فيصنعون ذهبًا أو فضة أو عنبرًا أو مسكًا أو جواهر أو زعفرانًا أو ماء ورد أو غير ذلك، يضاهون به خلق الله‏:‏ ولم يخلق الله شيئا فيقدر العباد أن يخلقوا كخلقه بل قال الله، عز وجل، فيما حكى عنه رسوله‏:‏ ‏(‏ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة فليخلقوا بعوضة‏)‏ ولهذا كانت المصنوعات مثل الأطبخة والملابس والمساكن غير مخلوقة إلا بتوسط الناس قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 41‏]‏ ‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 95‏]‏ ‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 96‏]‏‏.‏ وكانت المخلوقات من المعادن والنبات والدواب غير مقدورة لبني آدم أن يصنعوها، لكنهم يشبهون على سبيل الغش‏".
هل نأخذ بما قاله ابن تيمية ونطبقه على الكيمياء الآن؟ من يقول بذلك فهو جاهل، لم يفهم كلام ابن تيمية على حقيقته، ولم يفهم حقيقة الكيمياء في العصر الحديث. وتعنى الكيمياء كمصطلح: العلم الذي يدرس طبيعة المادة ومكوناتها وكيفية تفاعلات المواد بعضها مع بعض، وعلاقاتها بالطاقة. وعلى هذا تكون وظيفة العالم الكيميائي الأساسية هي معرفة أكبر قدر ممكن من المعلومات عن طبيعة المادة التي أوجدها الله في هذا الكون.
وكانت الكيمياء في العصور السابقة تستخدم لأهداف ربما على رأسها إحالة المعادن العادية إلى معادن ثمينة، وتزامن مع ظهور الكيمياء القديمة ظهور التنجيم واختلط بها السحر كما سيطرت الرمزية على هذه الكيمياء مما أغرقها في الغموض.
كانت النظرة للكيمياء التي شاعت عند كثير من المسلمين، سلبية، لأنها ركزت على الجوانب والتطبيقات غير المشروعة، دون التعمق في فهمها، والعمل على تغيير المسار إلى مسار آخر نافع (وهذا ما فعله الأوروبيون)، وكان ذلك من أسباب تأخر المسلمين في الحضارة والمدنية. وبالله التوفيق،،،

* متخصص في الاقتصاد الكلي والنقدي والمالية العامة، وكبير اقتصاديين سابق في وزارة المالية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي