رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


حتى نسمع عن انعقاد جمعية عادية يصوت فيها ضد براءة الذمة..!

أشرت في مقالي السابق حول الشركات إلى أن الشركات الفقهية أوسع مساحة من الشركات النظامية, حيث وسعت من هامش الحرية والمسؤولية, وقد أشرت إلى السبب الباعث على اتساع هامش المسؤولية, بحيث تكون المسؤولية مطلقة لا محدودة.
وأحب هنا أن أنبه إلى السبب في سعة هامش الحرية هو أن الشركات الفقهية قائمة على فكرة العقد, أما الشركات النظامية فهي قائمة على فكرة النظام, ولا ريب في أن فكرة العقد أوسع هامشاً من فكرة النظام؛ وذلك لأن فكرة العقد منطلقة من إرادة الشركاء, وبالتالي فإن للشركاء الحرية الكاملة في رسم أسلوب الشراكة بالطريقة التي يريدونها, بشرط ألا تخالف القواعد الشرعية العامة التي هي مجرد خطوط عريضة تحمي الشركاء من الوقوع في الربا أو الظلم أو الغرر أو التضليل أو نحو ذلك مما يضر بالشركاء أو بأحدهم, أما الشركات النظامية فهي قائمة على فكرة النظام, وبالتالي فهي موضوعة في قوالب جاهزة للاستخدام, إذ إن أسلوب الشراكة مرسوم بتفاصيله في مواد النظام, ولا يصح الاتفاق على مخالفته إلا فيما لا يخالف النظام العام, كما هو معلوم باستقراء مواد النظام.
والواقع أن لكل من هذين النوعين من الشراكة جانبا إيجابيا, فللشركات القائمة على فكرة التعاقد جانب إيجابي, وهو توسيع هامش الحرية للشركاء, وللشركات القائمة على فكرة النظام جانب إيجابي, وهو رسم ملامح هذا النوع من الشراكة؛ ليكون معروفاً للكل بتفاصيله, مما يسهل معرفة الحقوق والواجبات للشريك والمسؤول على حد سواء, ولكن ما يؤخذ على الشركات القائمة على فكرة النظام أن بعض موادها النظامية محل نظر من الناحية الشرعية, ولهذا يجب إعادة النظر فيها, ولا سيما أن نظام الشركات قد تم تعديله عدة مرات منذ أن صدر عام 1385هـ, حيث تم تعديله أعوام 1387هـ, 1402هـ, 1405هـ, 1407هـ, 1412هـ, 1418هـ, كما صدر مشروع نظام الشركات عام 1426هـ, معدِّلاً بعض المواد في نظام الشركات, وهذا يدل دلالة واضحة على أن واضع النظام يرحِّب بأي تعديل في مصلحة النظام, ولا سيما إذا كان التعديل منسجماً مع ما قرره النظام الأساسي للحكم, حيث نص في مادته السابعة على ما يلي: "يستمد الحكم في السعودية سلطته من كتاب الله تعالى وسنة رسوله, وهما الحاكمان على هذا النظام, وجميع أنظمة الدولة" ولأن النظام الأساسي للحكم حاكم على كل أنظمة الدولة, بما فيها نظام الشركات, لذا يجب تعديل مواده المخالفة لقواعد الشريعة الإسلامية.
وإذا كانت الجهات المعنية بإصدار الأنظمة تراعي عند تعديل النظام مطالب التجار والجهات ذات العلاقة, فينبغي عليها من باب أولى مراعاة مطالب الشارع الحكيم, الذي لم يشرع الأحكام لمصلحته - فهو غني عن عباده - وإنما شرعها بما يحقق مصالح العباد, على المديين القريب والبعيد, ولهذا فأحكامه الشرعية الصادرة من وحي الكتاب والسنة لم ولن يطرأ ما يوجب فيها التعديل؛ لأنها أحكام صادرة من لدن حكيم خبير, صالحة لكل زمان ومكان, وهذا بخلاف الأنظمة التي يضعها البشر, فهي بحاجة دوماً إلى تعديل وتغيير, لأن وضع الأنظمة عادةً يكون وفق رؤيةِ محدودة, لا تتعدى حدود الزمان والمكان الذي يعيش فيه واضعو النظام, وذلك بحكم النقص الموجود في جنس البشر..!
لقد اهتم الشارع الحكيم بالشركات كأداة رئيسة من أدوات الاستثمار, وحتى أرسم معالم هذا الاهتمام, نجد أحاديث الشركات في صحيح البخاري (فقط) قد جاءت في 27 حديثا, كما قاله الحافظ ابن حجر في فتح الباري, ومن ذلك ما رواه البراء بن عازب, وزيد بن أرقم ـ رضي الله عنهما: (أنهما كانا شريكين, فاشتريا فضة بنقد ونسيئة, فبلغ ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم, فأمرهما أن ما كان بنقد فأجيزوه, وما كان نسيئة فردوه), وترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: "باب الاشتراك في الذهب والفضة وما يكون فيه الصرف"، ومن صور الاشتراك إعطاؤه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرض خيبر لليهود ليعملوا فيها, ويزرعوها (...على أن لهم شطر ما يخرج منها), وهو اشتراك في الغلة الخارجة منها, وقد ترجم عليه البخاري: "باب مشاركة الذميين والمشركين في المزارعة", ومن ذلك أيضا ما رواه جابر ـ رضي الله عنه ـ: (أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم, فإذا وقعت الحدود, وصرفت الطرق, فلا شفعة) وترجم عليه البخاري: "باب الشركة في الأرضين وغيرها", وهذا غيض من فيض, وهو يكشف لنا حجم اهتمام الشريعة الإسلامية بباب الشركات, كأداة استثمارية ناجحة.
وعوداً على ذي بدء, أرى أن بعض المواد في نظام الشركات بحاجة إلى تعديل وفق ضوابط الشريعة الإسلامية, ومن ذلك ما يلي:
1- تحديد المسؤولية في شركات التوصية البسيطة, والتوصية بالأسهم, والمساهمة, وذات المسؤولية المحدودة, وتحديد المسؤولية وإن إجازة مجمع الفقه الإسلامي, إلا أنه في حاجة إلى قيد مهم جداً, كما نبه إليه بعض الفقهاء المعاصرين, وهو أن يكون تحديد المسؤولية بشرط ألا يأذن الشركاء بعمليات تسمح بشغل الذمة, كالاستدانة في البيوع الآجلة, كما ينبغي أن يكون حل الشركة ببلوغ الخسارة نصف رأس المال عاماً في كل الشركات المحدودة المسؤولية, وألا يخضع ذلك لموافقة الشركاء, كما ينبغي ألا يسمح بتوسيع دائرة تحديد المسؤولية, حيث يقنَّن للشركات ذات الشخص الواحد, والتي لا تتفق مع ركن الشركة"تعدد الشركاء", ولأنها تفسح المجال على مصراعيه, للتلاعب في مقدرات الناس, ثم التنصل منها, باسم المسؤولية المحدودة...! ولهذا فإن طرح هذه الفكرة على مجلس الشورى قبل أيام لم يكن صائبا من وجهة نظري المتواضعة.
2- إن تحديد الخسارة - على ما جاء في النظام - يكون بحسب ما اتفق عليه الشركاء, وإن اتفقوا على الربح ولم يتفقوا على نصيبهم من الخسارة, فإنها تكون معادلة لنصيبهم من الربح, وهذا خلاف ما قرره الفقهاء, وأن الخسارة تكون على قدر المال مطلقاً, قال ابن قدامة في المغني: "لا نعلم في ذلك خلافا" ثم إن كون الخسارة بحسب ما يتفقان عليه يؤدي إلى القرض الذي جر نفعاً "وهو محرم بالإجماع" أعني في جزء المال الذي لا يتعرض للخسارة, كما أنه مؤد أيضا إلى ربح ما لم يضمنه الشريك, وهو محرم أيضا.
3- إن النظام نص على أن الشريك المتضامن إذا انضم إلى الشركة كان مسؤولاً بالتضامن مع باقي الشركاء في جميع أمواله عن ديون الشركة السابقة واللاحقة لانضمامه، ويلاحظ هنا: أن تضمين الشريك الجديد الديون السابقة محل نظر؛ لما فيه من الإجحاف به فيما لا علاقة له به أصلاً, والشريعة الإسلامية جاءت بدفع الضرر, فكيف يكلف هذا الشريك ويضمَّن دين غيره, ويحمَّل وزر شريك آخر..؟!
4- ثم جاء في مادة أخرى:"تنقضي شركة التضامن: بوفاة أحد الشركاء, أو بالحجر عليه, أو بشهر إفلاسه أو إعساره, أو بانسحابه من الشركة إذا كانت مدتها غير معينة. ومع ذلك يجوز النص في عقد الشركة, على أنه إذا توفي أحد الشركاء, تستمر الشركة مع ورثته ولو كانوا قصرا" هكذا بإطلاق...! ولا بد من الناحية الشرعية هنا, أن يقيد هذا النص النظامي بعبارة: "بعد موافقة الولي, أو الوصي" لأنه يجب على ولي القاصر أو وصيه أن ينظر له الأصلح, فإن كان الأصلح له استمرار الشركة, استمر إذن فيها, وإلا فلا...
5- إن جمعيات المساهمين بواقعها الحالي في الشركات المساهمة تسمح بسيطرة رؤوس الأموال, والمؤسسين على قرارات الشركة, والواقع أن هذا فيه تهميش لباقي شرائح المساهمين, من أصحاب رؤوس الأموال المتواضعة, ومن هنا فإنه يجب وضع الآليات المناسبة للحد من هذه السلطة المطلقة لأصحاب رؤوس الأموال, حتى يمكن أن نسمع عن انعقاد جمعية عامة عادية يصوت فيها ضد براءة ذمة أعضاء مجلس الإدارة..!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي