رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


السأم

للسأم طعم حامض مر ولون رمادي أغبر وأياد أخطبوطية تسد المسام ومجاري النفس.. يترصدنا السأم على حين غرة، يأتي من اللا مكان فيرزح ثقيل الوطأة على الصدور فلا نملك له ردا، لأنه لا يستأذننا في مجيئه: لا متى ولا كيف؟
و(السأم) الذي نتحدث عنه لا يقف عند المعنى الذي طرحه الروائي الإيطالي البرتو مورافيا في روايته الموسمة بهذا العنوان، أو الذي طرحه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في (الغثيان).
مورافيا وسارتر عبّرا عن الاكفهرار والاشمئزاز والازدراء الطافح من قاع الروح الإنسانية حين لا تتصالح مع نفسها والعالم.. مورافيا من خلال الموقف من الجنس وسارتر من خلال الموقف من الحرية وكلاهما يلتقيان في فقدان (المعنى) للحياة أو غيابه!
مثلهما، وعلى نحو صارخ، جعل صموئيل بيكت (العبث) في مسرحيته (في انتظار جودو) مصدرا للسأم والغثيان، على أساس أن الإنسان محكوم عليه بانتظار ما لا ينتظر في رحلة مكابدة شاقة على النحو الذي صورته أسطورة (سينريف) الذي حكم عليه بحمل صخرة هائلة الحجم لوضعها في أعلى الجبل، لكنه في كل مرة يكاد يبلغ بها القمة تسقط إلى الأسفل فيعاود النزول إلى الأسفل ليحملها صاعدا وهكذا دواليك لا الصخرة تستقر على قمة الجبل ولا (سينريف) ينجز مهمته فيستريح. أو كما في أسطورة (تانتالوس) الذي حكم عليه بغمره في الماء العذب البارد إلى ذقنه وعناقيد الفواكه تتدلى قرب فمه لكنه في اللحظة التي يريد فيها إطفاء ظمأه بشربة ماء يغور الماء للأسفل فلا يدرك منه نقطة واحدة تبل شفتيه، وكذلك حين يحاول الوصول إلى عناقيد الفاكهة ترتفع بها الأغصان بعيدا عن متناوله.. يطارد (سينريف) الانعتاق ويطارد (تانتالوس) مباهج الحياة.
هذا التطرف في وصف الحالة الإنسانية يقابل بين مفاعيل الإحساس الفادح بالسأم وأخويه الغثيان والعبث وبين ثمن الانعتاق ومباهج الحياة (الحرية والمتعة)، بمعنى أن السأم الذي يخاتلنا حتى في عز نشوتنا أحيانا فيجثم على صدورنا هو ثمن أو عقاب خداعنا لذواتنا ومراوغتها الدائمة في أن نستأثر بالحرية والمتعة بأنانية مفرطة كل الوقت دون تبعات، دون دفع ثمن من أي نوع، لا جسديا، ولا ماديا، لا معنويا ولا نفسيا، لا عقليا ولا روحيا، لذلك يدب السأم بخطوه الثقيل ليهصر وجداننا وينهش وعينا قصاصا من مغالطة الواحد منا في حسبان وجوده أهم من وجود الآخرين.. وحتما يتافقم هذا القصاص النفسي (السأم) بتفاقم تضخم الذات وتورمها ليصبح كارثيا لا يطاق، حين يتم عدم الاعتراف بالآخر، إنكاره، أو نفيه، أو تغييبه، فكلها سواء.
(سينريف) و(تانتالوس) في نشدانهما الحرية والمتعة يجسدان مثال الاستئثار واختصار العالم في الأنا، وهما لكي ينالا مبتغييهما فلا بد لهما من التطهر عبر المعاناة.. الأمر نفسه يفعله معنا (السأم) فسيظل يترصدنا في مخاتلتنا لضمائرنا وفيما نتقلب فيه آناء الليل والنهار من امتيازات ومآثر وما إذا كانت بلا شوائب من حق آخرين أو بلا سبب لإيغار صدورهم، ولأن الالتباس في هذه وتلك صار سمة حياة الناس فسيمارس (السأم) سطوته علينا مداهما إيانا من هذين البابين بالدرجة الأولى ومن أبواب أخرى مثل: النشأة، التعليم، العمل، إيقاع الحياة الاجتماعية وكوننا من مواطني هذا العالم الزاخر بكل ما يدمي القلب أو ما يطير صواب المرء من النشوة .. لكن يبقى الصحيح الأصح: إنه كلما توافرت النية لإدانة (السأم)، توافرت عدة الخلاص منه أو على الأقل التخفف منه!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي