رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


عقاريونا يبيعون السراب مع التراب

أثبتت الأزمة المالية العالمية أننا "معولمون" غصباً عنا حتى إن كنا غير "قادرين" على ممارسة العولمة بمفهومها الكامل! كما أثبتت موجات إنفلونزا الخنازير وقبلها الطيور، وسيثبت غيرهما, أن العالم فعلا قرية صغيرة جداً مع بيئة سريعة الاضطراب، سريعة التحرك، وسريعة التغير لدرجة الشراسة. ولا يمكن مهما أعطينا من نفوذ أو سيطرة أو قوة أن نتوقع ما قد يحدث غداً لأي فرد أو دولة، سواء كان الفرد قويا أو ضعيفا، أو كانت تلك الدولة كبيرة أو صغيرة! فلا شيء مستحيلا مع كل تلك الإمكانات التي وفرها الإنسان لنفسه، وبالذات في العقود الخمسة الأخيرة (نصف قرن). حتى إمكانية السيطرة على الشعوب اليوم أصبحت تحت مجهر التشريح مقارنة بمفهوم الدولة التقليدي الذي ساد قرونا. فقد شاهدنا وسنشاهد مظاهرات معولمة لا تخضع لنطاق جغرافي محدد، ولا عرق واضح أو دين.
ومن أحدث الأمور "المعولمة" انتشار "الفساد في القطاع الخاص" بأنماط معينة! نعم القطاع الخاص وليس العام أو الحكومي! فقد ثبت عملياً أن الفساد الحكومي سهل إدراكه ومعرفة مدى تفشيه من خلال وجود الأجهزة ذات الطبيعة المستقلة القادرة على كشفه أو الراغبة في كشفه ومؤسسات المجتمع المدني، مثل ديوان المراقبة العامة لدينا! كما أن الفساد الحكومي محدود في النطاق الجغرافي لتلك الدولة, وبالتالي تكون آثاره في تلك الدولة وسكانها أو مواطنيها ولا تتعداها. كما أن مصادر إيرادات الدولة ومصروفاتها أسهل في إحصائها من القطاع الخاص إذا ما عرفنا مصادر الدخل لتلك الدولة وبالذات تلك الدول المعتمدة على المصادر الطبيعية. أما مُشكل الفساد في القطاع الخاص فهو من الصعوبة تحليله أو معرفة تفاصليه، وتتبع خيوطه، وهنا نحن نتحدث عن كل أنواع الفساد المادي والإداري وغيرهما.
فقد أثبتت الأزمة المالية أن تأثيرات الفساد وانفلات القطاع الخاص بلا ضوابط كارثة على الجميع وعلى السلم العالمي، لا يمكن استثناء دولة دون أخرى من آثاره فهو فساد عابر للقارات بأسلحة فساد شاملة فقد كان واضحا من خلال الأزمة المالية العالمية التي نعيشها اليوم وتأثيرها السلبي الكبير في كل دول العالم دور الفساد والجشع والطمع الخارج من رحم القطاع الخاص وليس القطاع العام. وكذلك عمليات الاحتيال الكبيرة التي ظهرت عندما أفلس الجميع وبدأوا في البحث عن أموالهم المستثمرة في الفساد! كما حدث في 50 مليار دولار مادوف, التي ضحك فيها على دول قبل المستثمرين الأفراد، بتسويق من مؤسسات مالية دولية "مرموقة"! وفوق كل ذلك فساد المؤسسات المالية الكبيرة نفسها، التي كانت ميزانيات بعضها تفوق ميزانيات دول!!! ولا ننسى "المادوفات" المحلية من أصحاب المساهمات العقارية وغيرها!
أدرك الآن العالم تلك الحقيقة المرة، التي كانت الحملة المعاكسة لتلك الحقيقة أقوى من أن تجعل العالم يتوقف للحظة للسؤال عنها، رغم أنه كان هناك من يراها واضحة منذ زمن. منظمة الشفافية العالمية هي منظمة مجتمع مدني عالمية التوجه يديرها أشخاص مشهود لهم بالنزاهة والدور الكبير في تطور العالم وليس بلدانهم مثل بيتر إيجين Peter Eigen وهو ألماني عمل سنوات في البنك الدولي ولديه سجل مشرف في محاربة الفساد ومؤسس المنظمة. وينحصر دورها في محاربة الفساد بكل أشكاله، الحكومي منه والخاص، وبرؤية خلق التغيير المناسب في كل قطر بشكل تكاملي حتى يصبح لدينا عالم خال من الفساد، قد رأت المنظمة حقيقة الفساد في القطاع الخاص منذ تأسيسها، حتى إنه في أحد النقاشات مع دولة مثل ألمانيا كان الموضوع الرئيس عند مناقشة الفساد في الدول النامية، أن علينا كغربيين إيقاف الرشا التي تدفعها شركاتنا "الغربية" لبعض المسؤولين في تلك الدول ورجال الأعمال "الوكلاء" لحماية مصالح تلك الشركات حتى إن كان ذلك على حساب أمن وأمان تلك الدول، قبل أن نطلب منها وضع آليات لمنع الفساد المالي والإداري فيها، فقد أوضحت المنظمة أن حجم الرشا التي تدفع كل سنة حول العالم يتجاوز تريليون دولار.  

أين نحن في المملكة بالذات من قضية الفساد الكبير جداً في القطاع الخاص! الذي أجزم أنه يفوق ذلك الموجود في القطاع الحكومي، حيث إنه يأخذ أشكالا أكثر تعقيدا وبشكل يصعب معه معرفة تفاصيله. وبطبيعة الحال لا يوجد في المملكة مؤسسات مجتمع مدني قادرة على متابعة هذا الملف أو حتى معرفة مصادره, فضلا عن أن تركيبة القطاع الخاص غير واضحة المعالم في كثير من قطاعاته المختلفة فيما عدا عدد قليل من القطاعات التي تخضع للإشراف والرقابة من قبل جهات محددة. وقد يكون قائل "فخار يكسر بعضه" لماذا نهتم بالفساد في القطاع الخاص؟
الفساد في القطاع الخاص خصوصاً مع التوجه الرسمي في إعطاء مساحة أكبر ودور أرحب للقطاع الخاص في إدارة العجلة الاقتصادية يتطلب أن يكون لدينا الأنظمة المناسبة لحماية الحقوق العامة والخاصة، وكذلك توفير البيئة المناسبة للمنافسة في تقديم المنتجات والخدمات حسب المعايير التي يريدها المجتمع، وفي حالة عدم توافرها يؤدي ذلك إلى تراخي هذا القطاع في الوصول إلى المستويات التي نأملها. وللتدليل على ذلك انظر إلى وكلاء المنتجات الغربية دون تسمية، ولاحظوا التفاوت في الخدمات التي يقدمونها في السوق السعودية بين وكلاء أو أصحاب المنتجات في بعض الدول المتقدمة، تلاحظ بشكل واضح الفرق بين مستويات الخدمات دون خوف هذا الوكيل من أي تبعات للقصور في حقوق المستهلك! السبب ضمان هذا الوكيل للحماية المحلية. وهذا مؤشر فساد مشترك حكومي وخاص, أو تواطؤ. نسمع اليوم عن إعطاء المحامين دورا أكبر في إصدار الوكالات من قبل وزارة العدل مثلا، ونسمع عن قطاع مثل قطاع المقاولات ومطالباته بدور أكبر في دعم عجلة التنمية, كما يقولون، وغيرهما من القطاعات. وننسى أن هناك فسادا مستشريا في حاجة إلى أن يعرى أولا، ثم تنظيم تلك القطاعات، ومن ثم تعطى الثقة والفرصة. بطبيعة الحال لا ننسى سيد القطاعات لدينا وهو القطاع العقاري وبيع السراب مع التراب.
آمل أن نستعين بخدمات وخبرات منظمة الشفافية العالمية للاستفادة منها في تطوير آليات ضبط القطاع الخاص والفساد المستشري فيه، أو على الأقل كشفه وتعريته فلا يمكن أن ينجح التوجه الحكومي في منح القطاع الخاص مساحة أكبر للعب دور رئيس دون وجود آليات حفظ الحقوق العامة والخاصة ومحاسبة القطاع الخاص بشكل يجعل الجميع مطمئنا. وبالله التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي