في حديث مع أكاديمي أجنبي (1 - 2)
جمعتني إحدى المناسبات بأحد أساتذة الجامعات السعودية, بريطاني الجنسية, وقد وجدتها فرصة لمناقشته في بعض الجوانب التربوية، نظراً لعمله في التعليم الجامعي, ولاختلافه في بيئته الثقافية, والمعرفية, وطريقة التفكير, أو بتعبير آخر، نظراً لوجود إطار مرجعي مختلف لديه عن الإطار المرجعي الذي يسود في مجتمعنا ويؤثر في الأغلبية من أبناء المجتمع. ونظراً لأن رؤية الآخر المختلف تمثل منطلقاً لفهم الذات, والتعرف على مكوناتها الإيجابية والسلبية لذا حاولت في مجاذبتي الحديث معه تناول القضايا التربوية والاجتماعية فهي الأهم بالنسبة لي. حول الطلبة السعوديين, وكيف وجدهم أثناء عمله في الجامعة ذكر لي ملاحظة طالما تحدث عنها كثير من أساتذة الجامعات, وقد لاحظتها بنفسي مع طلابي في الجامعة, إذ ذكر هذا الأستاذ الجامعي الأجنبي انخفاض مستوى الطلاب, بل وتدني مستواهم, وفي محاولة مني لمعرفة الأسباب, وهذا مهم بالنسبة لي, ذكر أن افتقاد الطلاب المهارات الأساسية وآليات التفكير الضرورية قد يكون أحد الأسباب, وأرجو ألا يفهم القارئ الكريم أن المهارات الأساسية وآليات التفكير محدودة بأسسها الفطرية فقط بل إن المقصود في هذا السياق ما له علاقة بأساليب التنشئة, والتربية, ونظم التفكير وبنائها البناء السليم, وإكساب الفرد مهارات التفكير العميقة كالتحليل, والاستنباط, والنقد, والتفكير الإبداعي, فالتعليم العام هو الذي يستقبل الطلاب, وهم في وضع طري قابل للتشكيل, وهذا من شأنه أن يطرح سؤالاً مفاده هل المؤسسة التربوية ممثلة في مدارس التعليم العام, والمنزل تعلم بالشكل السليم الذي ينمي ويشكل الاستعدادات الفطرية بالصورة التي ترتقي بالطلاب إلى مستويات التفكير العليا؟! قد يجادل البعض, ويقول إن خريجي المرحلة الثانوية يحصلون على نسب عالية في درجاتهم فكيف يمكن قبول مثل هذا الطرح؟ وبهدف التعمق في مناقشة هذا الموضوع نقول إن الدرجات العالية لا تعني بالضرورة اكتساب الطلاب المهارات وآليات التفكير العليا فنظام التقويم وتضخم الدرجات كلها عوامل قد تسهم في ارتفاع النسب مع افتقاد الطلاب القدرات التي تتناسب في مستواها مع الدرجات العالية.
صاحبنا البريطاني ذكر أنه يلاحظ انخفاض دافعية الطلاب, واكتفاءهم بالحد الأدنى من الجهد الذي يحقق لهم النجاح بأبسط, وأدنى صوره, إذ لا يبذل الطلاب أثناء دراستهم في الجامعة الجهد والنشاط الكافي, وهذه ملاحظة متكررة, إذ كثير من الزملاء في الجامعة, وفي جامعات سعودية أخرى يشتكون من هذه الظاهرة, وفي اعتقادي أن السبب يعود إلى عدة أمور أهمها النظام التعليمي في الجامعات الذي يقدم المعلومة للطلاب, ولا يجعلهم مشاركين في اكتشافها, والحصول عليها, كما أن من الأسباب اكتفاء بعض أساتذة الجامعات بالحد الأدنى من المعرفة, وهذا يتضح من خلال اكتفاء البعض بالمذكرات, ويضاف لما سبق من أسباب انصراف الطلاب إلى اهتمامات هامشية أوجدتها بعض الظروف, والمكونات الثقافية, والاجتماعية. ومن الملاحظات التي أبداها الأستاذ الجامعي البريطاني في الجامعة التي يعمل بها ـ حتى لا نعمم ـ عدم انتظام الدراسة من بداية الفصل بل إنه ذكر أنه يمضي ستة إلى سبعة أسابيع, والطلاب, والأساتذة لم تكتمل, ولم تنتظم جداولهم, وهذا يعود في رأيه إلى عدم وجود الصلاحيات الواضحة, وقلة الخبرة, والمهارات لدى بعض المنفذين, وعدم وجود إجراءات إدارية محددة تبين الخطوات الواجب اتباعها لإنجاز أي عمل من الأعمال, إضافة إلى عدم وجود الإدارة المنضبطة, وهذا الوضع يحدث حالة من الفوضى الإدارية, وفي ظني أن افتقاد الإدارة الفاعلة, والإدارة الميدانية التي ينتقل فيها المسؤول من مكتبه إلى الواقع, إضافة إلى اهتمامات المسؤول, وتركيزه على الشكليات بدلاً من الجوهر أمور تسهم في خلق أجواء غير مناسبة من الناحية التربوية والتعليمية.
في محاولة مني لمعرفة كيف يسهم التعليم العام في بريطانيا في الرقي بالمستوى التعليمي, والتربوي للطلاب في المراحل كافة بما في ذلك التعليم العالي ذكر صاحبنا أن النظام التعليمي في بريطانيا يختار أفضل الأساتذة للعمل في التعليم العام أو الأساسي لأنه هو الذي يؤسس, ويبني قدرات التفكير في مستوياتها العليا, وهذا من شأنه استمرار هذه القدرات مع الطالب حين انتقاله إلى الجامعة, أو معاهد التعليم العليا, وأكد أن النظام التعليمي البريطاني يقتنص المتميزين خاصة في العلوم الأساسية كالرياضيات, والفيزياء, بل إن الحكومة البريطانية تعطي من يرغب الدراسة في هذين الحقلين من حقول المعرفة مكافأة تشجيعية, أما رواتب معلمي التعليم العام فهي تفوق رواتب أساتذة الجامعات, واستشهد بأخيه الذي يعمل معلماً للفيزياء في بريطانيا, ويتقاضى راتباً يفوق راتبه حين كان يعمل في الجامعة في بريطانيا. تذكرت وأنا أستمع لحديثه هذا حالة التجاذب التي توجد على الساحة المحلية بشأن تسكين المعلمين على المستويات التي يستحقونها نظاماً, التي يفترض حصولهم عليها منذ تعيينهم في سلك التعليم بدلاً من انتظارهم سنوات كي يحصلوا على هذا الاستحقاق, ولو بصورة ناقصة. من الأمور التي لفتت انتباهي أثناء حديثي مع الأستاذ البريطاني ما أشار إليه من أنه يقوم بتدريس أبنائه في البيت, ولم يلحقهم بأي مدرسة, وذلك سعياً منه لإكساب أبنائه مستوى عاليا من التعليم ليس في جانبه المعرفي فقط ولكن في طريقة التفكير, وفي السلوك وفي الأخلاق, وفي المنظومة الوجدانية, والجدير بالذكر, وكما قال فإن أبناءه لا يختبرون في نهاية العام الدراسي بل إنهم يختبرون عند بلوغهم سن السادسة عشر, حيث يأخذون اختباراً شاملاً يكشف اكتسابهم المهارات الأساسية والضرورية في التفكير, وفي المعرفة, وفي تنظيم الذات والحياة, وتكامل شخصية الفرد التي تؤهله للاعتماد على ذاته وشق مستقبل حياته بجهده. إن معرفة تجارب الآخرين واستنتاجاتهم بشأن أوضاعنا قد تفيدنا إن نحن أحسنا الاستفادة من هذه الملاحظات وتعاملنا معها بصورة صحيحة, وصدق عمر بن الخطاب حين قال "رحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي".