في ضرورة بناء سيناريوهات للتعامل مع التضخم
وصل معدل التضخم في شهر تموز (يوليو) الماضي إلى أعلى مستوى له في سبع سنوات لتبلغ زيادته السنوية نحو 3.84 في المائة. وقد تناولت الكثير من المقالات ارتفاع المستوى العام للأسعار، وخصوصاً السلع الغذائية وتكلفة السكن، بالبحث والتمحيص والإشارة لعوامل داخلية كتكلفة الإيجارات والإنفاق الحكومي ورفع الأسعار المتعمد من قبل التجار أو لعوامل خارجية تتعلق بانخفاض سعر صرف الدولار الأمريكي أمام العملات الأخرى، ما يؤدي إلى انخفاض سعر صرف الريال الفعلي وارتفاع تكلفة الواردات.
وتبعاً لبيانات مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات، فإن نظرة سريعة على مكونات التضخم التي ارتفعت خلال عام واحد فقط بين تموز (يوليو) 2006 ونهاية نظيره في العام الحالي، نلاحظ تفاوت إسهامات مختلف مكونات التضخم في ارتفاع الرقم القياسي لتكاليف المعيشة، حيث شهد الارتفاع الأعلى في الأسعار مكون الترميم والإيجار والوقود والمياه بنحو 7.71 في المائة، يليه في الارتفاع مكون الرعاية الطبية بنحو 6.48 في المائة، ثم الأطعمة والمشروبات بنحو 5.86 في المائة، يليها السلع والخدمات الأخرى بنحو 4.08 في المائة، ثم التأثيث المنزلي بنحو 0.95 في المائة، والنقل والاتصالات 0.91 في المائة، بينما شهد مكون الأقمشة والملابس والأحذية انخفاضاً في مستوى الأسعار بلغ 2.41 في المائة، وانخفاضاً في مكون التعليم والترويح 0.31 في المائة.
ولكون معدل التضخم يعتبر من مصادر القلق للمواطنين والمسؤولين الاقتصاديين، من المهم تناول شأن ارتفاع المستوى العام للأسعار وتأثيراته التي قد تطول قطاعات اقتصادية وبرامج تنموية تشكل محور اهتمام لصناع القرار في المملكة. فمن نافلة القول، إن منهجية احتساب الرقم القياسي العام والأوزان الترجيحية لكل مكون من مكوناته، بل وأنواع السلع المتضمنة في كل مكون بجانب مدى تأثير المكونات عموماً في تحركات المؤشر القياسي العام للأسعار يشوبها الكثير من الغموض، غياب الشفافية، وبعض التداخل غير المنطقي، ما يشير إلى تحيزها نحو الانخفاض Downward Bias.
فعلى سبيل المثال، تشير التقارير الصحافية على أن أسعار الأرز الأكثر تواجداً على المائدة السعودية قد ارتفعت بنحو 50 في المائة خلال الفترة الماضية دون أن ينعكس ذلك على مكون الأطعمة والمشروبات في الرقم القياسي العام بالمقدار نفسه الذي يحتله حجم الإنفاق على الأرز ضمن إجمالي إنفاق الأسرة على الأطعمة والمشروبات. وإذا كان ارتفاع أسعار الأرز سيؤثر في حجم الطلب الكلي للأرز بافتراض وجود مرونة منخفضة للطلب، فإن من المتوقع انخفاض أسعار بعض المواد الغذائية المكملة للأرز إن كان سبب ارتفاع أسعار الأرز عوامل داخلية تتمثل بطمع التجار، أما إذا كانت المسببات خارجية كأسعار الصرف، فمن المتوقع أن ترتفع أسعار المواد المكملة للأرز كذلك إن كانت تستورد من دول تتشابه أسعار الصرف فيها مع هيكل أسعار الصرف من الدول التي نستورد الأرز منها على افتراض انخفاض مرونة الطلب لهذه المكملات.
أما مكون الترميم والإيجار والوقود والمياه والذي كان الأكثر ارتفاعاً خلال عام بنحو 7.71 في المائة، فهو مركب عجيب ليس من المعلوم على أي أساس تم جمع الوقود فيه مع الإيجار والترميم مع المياه!!! لذا نرجوا توضيح المنهجية التي تبرر حشر الوقود الذي يعتبر تكلفة نقل وتنقل، وتكلفة المياه التي تعتبر من تكاليف الخدمات التي يجب أن تحسب مع الكهرباء والهاتف والإنترنت وغيرها، وتكلفة السكن المتمثلة أساساً بأسعار العقار، الإيجار، والترميم. ونرجوا إيضاح ما يربطها إن كان هنالك رابط سواء من جهة معدل تكرار التكاليف وتوقيتها أم من ناحية طبيعتها ونسبة مشاركتها في الإنفاق الكلي للأسرة. وقد يكون أحد التفسيرات هو تخفيض أسعار الوقود الذي قد يسهم في إبقاء الرقم الكلي لهذا المكون منخفضاً خصوصاً مع الارتفاعات الكبيرة في أسعار الإيجارات والعقار عموماً. إذن، من المهم إعادة النظر في هذا المكون وضرورة مراجعته وفصل الوقود والمياه عمّا يرتبط بأسعار الإسكان للوصول إلى رقم شفاف وواضح يبين الارتفاع الحقيقي أو الانخفاض الفعلي في أسعار القطاع العقاري بما يتيح للمواطن ولصناع القرار اتخاذ الاستراتيجيات التي تساعدهم على تلمس الأسباب الكامنة وراء أي تضخم يطول قطاعاً معيناً والتخطيط المستقبلي لقرارات الاستثمار والادخار، وأكبر دليل على أهمية مؤشر كهذا هو قرار مجلس الوزراء الموقر بنقل مهام استراتيجية الإسكان إلى الهيئة العامة للإسكان خلال اجتماع الأسبوع الماضي.
وعند تناول أسباب التضخم، فهي تشمل المحلي والخارجي، فالمحلي يشمل ارتفاع الإنفاق الحكومي وحجم الطلب الكلي، ارتفاع معدلات السيولة وعرض النقود واتباع سياسات نقدية توسعية في أوقات الارتفاعات المحمومة للاقتصاد أو تزامناً مع تكون فقاعات الأصول، حيث يخلق ارتفاعا كبيرا في الطلب نظراً لتأثير الدخل، والسياسة التجارية ممثلة في الاحتكار من قبل مجموعات من التجار باستطاعتها التأثير في الأسعار ورفعها دون وجود خطر من أن يكسب المنافسون جزءاً من حصتهم السوقية. أما الجانب الخارجي فيشمل أسعار الصرف لكون انخفاض قيمة العملة أو الدولار الذي يرتبط به الريال يؤدي إلى انخفاض قيمة الريال أمام العملات الأخرى وبالتالي ارتفاع قيمة الواردات إذا كان سعر عملة الدولة المصدرة يأخذ في الارتفاع مقابل الدولار، وارتفاع تكاليف الإنتاج في البلد المصدر أو ارتفاع الطلب على السلع المصدرة، أي أن يكون ارتفاع أسعارها في بلد المنشأ ناتجاً عن أسباب حقيقية.
وأخيراً، يعتبر التضخم العدو الأول للنمو الاقتصادي، ومن المهم أن تقوم جميع الجهات الاقتصادية بعمل سيناريوهات للتعامل مع احتمال استمرار ارتفاع مستوياته. فعلى سبيل المثال، من المتوقع أن يرتفع الأجر التحفظي للباحثين عن العمل كنتيجة لتراجع القوة الشرائية للمبلغ النقدي نفسه بسبب التضخم، ما يؤدي إلى تراجع معدلات السعودة والباحثين عن العمل أيضاً إن لم يتم ضبط أجر مباشرة العمل ليتناسب مع المستوى العام للأسعار والأجر التحفظي الجديد. وللتأكيد، فإن الوظيفة الأساسية للرقم القياسي لتكاليف المعيشة لجميع سكان المدن هو توفير إشارات إلى صناع السياسات الاقتصادية، إلى قطاع الأعمال، وإلى المواطنين لاتخاذ خطوات تسهم في الحفاظ على مستويات الرفاه المتحققة وتجنب سلبيات التضخم وتبعاته، والتحوط ضد أي تقلبات اقتصادية بجانب التنبؤ بدورات الأعمال، حيث إن ارتباط الأرقام والإحصائيات الاقتصادية الأخرى بمعدل التضخم تبعاً للنظريات سيبين دقة الاحتساب وموثوقيته.