رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


المؤشرات الاقتصادية الرسمية.. بحاجة إلى أدلة إثبات!

"ضربة بالرأس توجع" فما بالك "بضربات متتالية" منذ 25 شباط (فبراير) 2006م وحتى اليوم على رأس كل مواطن، رغم كل التدفقات المالية الكبيرة التي ترد على الاقتصاد. وهذا قمة الخلل في الأنظمة الرأسمالية التي تحتاج دائما إلى التدخل والقدرة الفائقة على التنظيم ما بين الكلي والجزئي. وقد سبق من خلال هذه الجريدة ومن منطلق مسؤولية الكاتب بالتحدث عما يجب التحذير منه عبر رؤية مستقبلية، كتبت في 21/12/1427هـ الموافق 10/1/2007م تحت عنوان "التضخم... التحدي الأبرز في عام 2007م أمام دول الخليج". حيث بدأت الأمور تأخذ منحى أكثر خطورة على أصعدة متعددة مع مرور الأيام وتعدد الضربات! وهنا مقطع مما كتبت في بداية العام "إن تحدي 2007م أمام صانع القرار الاقتصادي سيكون بلا منازع هو التضخم. نعم التضخم، الذي، كما قلت، بدأت علاماته منذ عام 2006م، وتأكد مع النصف الأخير منه بالزيادة الواضحة في أسعار السلع الاستهلاكية (الغذائية تحديداً) بما يفوق 30 في المائة حسب بعض المؤشرات، وقبل التحدث عن المؤشرات الاقتصادية لذلك التحدي "التضخم" يكفى أن نشاهد الأسعار الاستهلاكية سواء الأساسية باستثناء الماء والكهرباء، التي هي بتعرفة حكومية وليست خاضعة للعرض والطلب. فمن أسعار المساكن وانتهاء بأسعار الكماليات، يمكن لأي شخص ملاحظة هذا الارتفاع الذي هو مرشح للارتفاع أكثر في 2007م. وكلي أمل أن يبدأ كل مسؤول بالشراء بنفسه في بداية العام ولو لمرة واحدة، وكذلك في نهاية العام الحالي ليشاهد الفرق الذي سيحدث للأسعار. وهو التعريف الاقتصادي للتضخم الذي يعني الارتفاع العام للأسعار والشامل".
بالتأكيد لم تأت هذه الضربات نتيجة عمل متعمد أو مبرمج ولكنها نتيجة كثير من المسببات التي ربما يكون لنا يد في بعض منها والبعض الآخر خارج عن قدراتنا! وعليه نقول إن المشكلة ذات محورين: الأول حول المؤشرات الاقتصادية الكلية وعلاقتها بالواقع الحقيقي لمعيشة الأفراد. والثاني حول طريقة التعاطي مع القراءات الاقتصادية لتلك المؤشرات.
وحتى نكون أكثر وضوحاً لنبدأ بالتحدث عن متوسط الناتج المحلي الذي يعكس متوسط دخل المواطن عبر قسمة الناتج المحلي على عدد المواطنين، وحسب الأرقام المتوافرة حتى عام 2005م فإن متوسط دخل الفرد 50.2 ألف ريال بنسبة نمو بلغت 20 في المائة للعام الماضي (مع افتراض أن نسبة النمو المحققة هي بالمعدل نفسه فإن ذلك يعنى أن متوسط دخل الفرد بلغ مع نهاية 2006م نحو 60 ألف ريال، في مقابل أن السيولة المتوافرة حسب آخر الإحصائيات تقول إنها في حدود 729 مليار ريال).
ومع التسليم بخلل هذا المتوسط حيث لا يعكس تركيبة توزيع الثروة بشكل حقيقي، فلو كان هناك مواطن واحد دخله السنوي مليار ريال وآخر دخله ريال واحد فقط وجمعنا متوسط الاثنين، فإن متوسط الدخل للمواطنين هو 500 مليون ريال وهو بطبيعة الحال ليس صحيحا، الحقيقة أن هناك من دخله مليار ريال سنويا وآخر دخله فقط ريال واحد سنويا وينطبق الكلام نفسه على مؤشرات تكاليف المعيشة وغيرها من المؤشرات. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن نحو 747.9 ألف موظف (جامعيين فأقل) يقعون في الدرجات المتوسطة من سلم الرواتب المدني (إلى المرتبة العاشرة)، وهو ما يعني أن متوسط الدخل لنحو 747.9 أسرة لا يتجاوز فعلاً خمسة آلاف ريال فقط في الشهر!
وعلى هذا الأساس إذا كان دخل المواطن 60 ألف ريال في السنة ومتوسط راتب شهري لا يتجاوز خمسة آلاف ريال فقط في الشهر، فإنه وبحسبة بسيطة بعد حذف تكاليف السكن (إيجار) حيث تقول الإحصاءات إن نحو 70 إلى 80 في المائة من السكان ليس لديهم مساكن يملكونها ونحو 40 في المائة من المتقاعدين بالذات ليس لديهم مساكن! والذي يصل عددهم (المتقاعدين) حسب إحصاءات مصلحة التقاعد حتى نهاية عام 1425/1426هـ نحو 285 ألف متقاعد لا يزالون أحياء يرزقون ونحو 92 ألف متقاعد توفاهم الله (رحمهم الله جميعاً) وتركوا أسرهم وهو ما يعني 377 ألف أسرة تعيش على رواتب تقاعدية لا تتجاوز في أحسن الأحوال أربعة آلاف ريال (إجمالي ما دفع في 1425/1426هـ مقسم على عدد المتقاعدين) حيث تستقطع تكاليف الإيجار أيضا ما بين 30 إلى 40 في المائة من الراتب، وهو ما يعني أن أسرة متوسط عدد أفرادها ما بين أربعة إلى خمسة أفراد عليهم أن يعيشوا مدة 30 يوماً بنحو ثلاثة آلاف ريال دون احتساب مصروفات الدراسة والمواسم (رمضان) وتكاليف المناسبات والتقاليد والعادات الاجتماعية وتكاليف النقل التي هي بالضرورة تعني سيارة لأنه ببساطة لا توجد وسائل نقل عامة وكذلك وفوق كل ذلك استيعاب معدلات التضخم الحالية من عقار وأرز وخضار ولحوم ومواصلات تصبح المعادلة صعبة ونرى نتائجها أمامنا كل يوم في وجوه الكثيرون!!! وهنا أتحدث فقط عن الحالات الطبيعة والمستقرة.
وحتى نكون منصفين فإن في مقابل هذه الصورة القاتمة، لا نزال نشاهد مظاهر سلبية في طريق الاستهلاك جعلت هناك مبررات لارتفاع الأسعار مع المسببات الأخرى من قبل شريحة لديها قوة شرائية لا يمكن التقليل من أهميتها كعامل مهم في زيادة الأسعار ولكن أيضا لا نعلم نسبتها التي هي بالتأكيد ليست الشريحة الكبيرة بل القليلة، حيث تراجعت معدلات الطبقة الوسطى وتقلصت بشكل كبير بعد 25 شباط (فبراير) 2006م! إذن أين الخلل في الصورة؟
أولاً: هناك فجوة حقيقية بين ما يعلمه المسؤول من حقائق عن الواقع وبين ما يصله من صورة وردية، وهي حقيقة نلمسها من كثيرين من المسؤولين الذين نجد أنهم ينكرون أبسط المعلومات التي يعرفها رجل الشارع بالتجربة وليس كمعلومة، لأن المسؤول لا يعيش في كثير من الحالات مثل بقية الأفراد، وهذا يفسر كثيرا من فشل القرارات التي تتخذ عند مرحلة التطبيق والأمثلة لا حصر لها!
ثانياً: فقدان التنسيق الكامل بين الجهات المعنية رغم إخلاص المسؤولين في عملهم، إلا أن التحديات أكبر من قدرة جهة معينة أو إدارة وحدها، المطلوب فريق عمل حقيقي يحدد المشكلات بشكل دقيق ويعمل على خطط التنفيذ للحلول ليس عبر قرارات ولكن من خلال برامج محددة المدة ومحددة الأهداف.
ثالثاً: غياب كامل للدراسات الميدانية والاستبيانات حول هموم وشؤون حياتنا العامة وهموم الناس، وهي الوسيلة الحقيقية التي تعطي صورة عن الواقع وليس الزيادات المعدة مسبقة التي تجعل وكما يقال الصورة وردية "وكل شيء تمام يا فندم" لأي مسؤول لأن المسؤول الأقل درجة لا يريد أن تظهر الحقيقة لمن هو أعلى منه وبالتالي بحاسب على تقصيره، وهي سلسلة لا منتهية من الهرم الإداري!!!
رابعاً وأخيرا: اختلاف درجات الناس في الدخل سنن ربانية وأساس عمل الاقتصادات ومنطق الأشياء، فلا يمكن أن نكون في مستوى دخل واحد. ولكن معظم الاقتصادات الرأسمالية التي تطورت بتطور التجارب وبالذات منذ عام 1928م عندما قررت أمريكا كحكومة ولأول مرة التدخل في هيكلية الاقتصاد الأمريكي وتوجيه معادلة العرض والطلب بعد أن اقتنعت بعدم إمكانية عمل معادلة العرض والطلب دون توجيه رسمي من خلال وضع التشريعات لحماية المجتمع أولا (العدالة) والاقتصاد عموماً (التنمية المستدامة) والحد من مظاهر الجشع وغيره وتحديد الحدود الدنيا لصيانة كرامة الفرد والمجتمع حسب الظروف التي يعيشها هذا الاقتصاد بحيث "لا يموت الذيب ولا تفنى الغنم" كما يقال. وهذا لا يزال مفهوما مغيبا لدى الدول الناشئة، ويحتاج إلى رؤية جديدة في إدارة الاقتصاد من خلال مفهوم ربط المفهوم الكلي للاقتصاد وبالمفهوم الجزئي له. وكلي أمل في مجلس الاقتصاد الأعلى الذي يمثله نخبة من رجالات الدولة على رأسهم خادم الحرمين الشريفين حفظه الله في أخذ زمام المبادرة وتشكيل لجنة عليا لا يكون فيها مسؤول حالي ولا أكاديمي ورفع تقريرا بالتوصيات إلى مقام المجلس تكون ملزمة التنفيذ بعد أخذ موافقة المقام السامي عليها، وكذلك إنشاء وحدة دراسات تابعة للمجلس مستقلة هدفها ربط حقائق الواقع بصانع القرار مباشرة من خلال رفع التقارير الدورية المحايدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي