رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


هل رحل الاستعمار حقاً؟

[email protected]

عند قراءة الصحف, أو سماع الأخبار في الإذاعة, والتلفزيون نسمع حديثاً عن اليوم الوطني, أو يوم الاستقلال في هذا البلد أو ذاك, كما نسمع تبادل التهاني بين القادة في مثل هذه المناسبات, وهذه الأيام في كل المجتمعات تمثل مناسبة تحتفل فيها المجتمعات بتحقيق إنجاز, أو رحيل مستعمر, أو تحقيق وحدة بعد تشرذم, وفرقة, وفي الغالب تكون مثل هذه المناسبة يوم إجازة تعطل فيها الدوائر الحكومية الرسمية وتكثر فيها البرامج والأحاديث التي تتحدث عن هذه المناسبة بغرض غرسها في نفوس الناشئة وتذكيرهم بما تحقق للوطن من إنجاز يحق لهم الافتخار به والمحافظة عليه جيلاً بعد جيل.
ونظراً لكثرة هذه المناسبات على مستوى العالم ولكثرة ما نسمع أو نقرأ حولها يحق لنا أن نسأل هل اليوم الوطني أو يوم التحرير يحمل معناه الحقيقي؟ أي هل تحرر البلد من الاستعمار بصورة حقيقية ؟! عند التأمل في وضع بعض البلدان وما أكثرها في عالمنا العربي, والإسلامي, وفي كثير من الدول التي خضعت للاستعمار الغربي يجد المرء أن التحرر قد لا يكون كاملاً, وأن السيادة ناقصة، فعلى سبيل المثال, أستراليا, ونيوزيلندا اللتان كانتا تحت الاستعمار البريطاني, لا يزال البلدان تحت مظلة التاج البريطاني, ولا تزال ملكة بريطانيا ملكة البلدين وإن كان بصورة غير مباشرة وحالة رمزية، كما لا يزال منصب حاكم عام أستراليا ونيوزيلندا قائماً رغم رحيل الوجود العسكري من البلدين وتسند هذه المهمة لمواطن بريطاني. ومن الأمثلة على الدول التي رحل عنها الاستعمار وحصلت على السيادة الكاملة الولايات المتحدة الأمريكية التي تحتفل في الرابع من تموز (يوليو) في كل عام بيومها الوطني, والمتأمل في وضع الولايات المتحدة الأمريكية يجد أن سيادتها كاملة ولم يعد لبريطانيا أو فرنسا اللتين كانت لهما سيادة على الولايات المتحدة أي نفوذ يذكر, ولا تخضع لأي مظلة كما في حال أستراليا, ونيوزيلندا, بل إن الولايات المتحدة مع تطورها, ونموها الاقتصادي, وقوتها العسكرية أصبحت ذات نفوذ, وتأثير واضح على كثير من دول العالم ومن بينها الدول التي كانت تخضع لنفوذها, حتى أنها تحولت إلى دولة استعمارية تمارس نفوذها بالقوة العسكرية وما وجودها في العراق وأفغانستان إلا تأكيد لهذه النزعة.
المتأمل في الأيام الوطنية محل الحديث يجد أنها صنعت وتحققت بعدة طرق منها التفاوض بين الطرفين أي بين الدولة المستعمرة, وبين الدولة الخاضعة للاستعمار مما أفضى إلى رحيل الاستعمار, وجنوده, وقواته، لكن دولاً أخرى لم تتحقق لها السيادة على ذاتها إلا بعد حروب وشهداء وتدمير, ومن الأدلة على هذا النوع من الدول الكثير من الدول العربية والإسلامية التي قدمت الكثير من أبنائها شهداء في سبيل التحرر من ربقة الاستعمار, ويكفي أن نعلم ما قدمه الجزائريون, والليبيون, وبلاد الشام, والعراق من تضحيات حتى تحقق التحرير. ومن دول العالم التي نالت تحررها إندونيسيا وماليزيا وكثير من دول إفريقيا، وذلك من خلال الكفاح المسلح مما أجبر دول الاستعمار على الرحيل دون رغبة ورضا منها.
النزعة الاستعمارية القائمة على الجشع, واستغلال ثروات الآخر ليس من السهل التخلي عنها, بل إنها تسير في دماء دول الاستعمار, وهي جزء من ثقافته تتضح في إنتاجه الثقافي من شعر, ونثر, وأفلام, وكتابات تعكس النظرة العلوية التي يشعر بها المستعمر في مقابل الآخر الخاضع لهيمنته وجبروته، كما أن المصالح التي تمتع بها المستعمر طوال سنوات الاستعمار من استغلال للثروات الطبيعية, ومن استعباد للأيدي العاملة الرخيصة أو المجانية تجعله يصر على استمرار هذه الدول خاضعة لنفوذه، ولذا عمدت الدول الاستعمارية إلى الإبقاء على قواعد لها في هذه الدول, أو تهيئة أفراد من بني الوطن يؤمنون بالحاجة للاستعمار, ويدافعون عن ثقافة الاستعمار, وذلك من خلال تكريس لغة المستعمر, ونظمه الإدارية, بل الكثير من عاداته, وتقاليده. وقد استخدم المرتبطون بالاستعمار المناهج الدراسية, والصحف, والمجلات, والإذاعة, والتلفزيون بغرض استمرار الثقافة الاستعمارية قوية ورائجة في الأوساط الاجتماعية, وتوجهوا في ذات الوقت إلى إضعاف الثقافة المحلية, ومحاربتها, والعمل على إحلال لغة المستعمر محل اللغة الوطنية, وجعلها اللغة الرسمية بينما اللغة الوطنية تتوارى في الشوارع الخلفية ويقتصر استخدامها على الفقراء, والأقل تعليماً وثقافة. ومن الأمثلة البارزة على استمرار الولاء للاستعمار ما يحدث في دول المغرب العربي, حيث اللغة الفرنسية تسود في أوساط كبيرة من أبناء المجتمع, كما توجد صحف تنشر باللغة الفرنسية, ويوجد مفكرون من أبناء هذه الدول يدافعون عن الاستعمار الفرنسي, ويمجدون حقبته, وإنجازاته وإضافة لما سبق من أساليب نجد الاستعمار لم يرحل إلا بعد أن ترك بؤراً تجبر على استمرار الاتصال به, والبحث عن مساعدته وحلوله, ومن الأمثلة على ذلك التداخل الحدودي بين دول الخليج العربي, إذ لم يرحل البريطانيون من هذه الدول إلا بعد أن جعلوا من التداخل بين حدود دول الخليج إشكالية تستمر تؤثر في العلاقات بين هذه الدول, وتجعل من المستعمر البريطاني مرجعا, وحكماً في مثل هذا الأمر, هذا إلى جانب عدم الاستقرار, وكثرة المشكلات على الحدود, والمناوشات, وهذا يمثل مصدر كسب للدولة المستعمرة من خلال خبرائها, ومبيعاتها العسكرية. وبغرض استمرار العلاقة الاستعمارية أوجدت آليات على شكل منظمات مثل منظومة دول الكمنولث, التي تنضوي تحتها الدول الخاضعة للاستعمار البريطاني, ويقابل هذا التجمع منظومة الدول الفرنكفونية, وتضم الدول الخاضعة للاستعمار الفرنسي, وهذه التجمعات تعقد اجتماعات دورية, ولها نظام, ورئاسة وذلك بهدف استمرار النفوذ الاستعماري, ولكن بصيغ مختلفة. لو تأمل المرء في واقع الدول الخاضعة للاستعمار لوجدها متخلفة ثقافيا, واقتصاديا, وسياسياً, ولم يرحل الاستعمار عنها إلا بعد أن تركها هياكل عظمية بلا شحم ولا لحم, وبالأحرى جثثاً هامدة لا حياة فيها, والغريب في الأمر أن الإرث السياسي الذي تفاخر به دول الاستعمار من حرية, وديمقراطية, ومؤسسات دستورية, ونظام سياسي قائم على الانتخاب لا وجود لها في الدول المستعمرة وإن وجدت فهي عبارة عن ممارسات صورية يعتريها التزييف ويميزها الاستبداد والقهر.
إن التحرر واليوم الوطني المعبر عنه يفترض أن يكون واقعاً ملموساً في مشاعر وفكر الناس, وثقافتهم, وعاداتهم, وتقاليدهم, ونظمهم الإدارية, وشؤون حياتهم كافة بما فيها القرارات السيادية, ومتى توافر هذا الشيء يمكن لهذه الدول أن تفاخر بيومها الوطني ويمكن أن يشعر الناس بطعم هذا اليوم، فهل تراجع هذه الدول واقعها وتبحث فيه عن مؤشرات الاستقلال والتحرر الذي قدمت التضحيات من أجله؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي