حرية الإعلام الاقتصادي .. هل نملك أدواتها؟!

[email protected]

لنعترف أولا أننا نعيش طفرة إعلامية حقيقية جديدة وانفتاحاً في مستويات الحريات الإعلامية غير مسبوقة على الأصعدة كافة، وهو توجه يؤكد حكمة الرؤية وسلامتها، وإلا أصبحت البيئة طاردة وبالتالي فإن البدائل جاهزة لاستقطاب المشاهدين والقرّاء بما في ذلك الإنترنت وما أدراك ما الإنترنت. وما هو مؤكد أنه ليس لديّ خبرة شخصية طويلة في مجال الكتابة الصحافية حيث لا تتجاوز الأعوام الأربعة في الكتابة الأسبوعية، لكن ما هو واقعي، إمكانية الادعاء أنني متابع بدرجة ممتاز لما يُكتب في الصحف المحلية وبدرجة متوسطة فيما يخص الصحافة الدولية، وبالذات فيما يخص الصحافة البريطانية، وهو عمل يومي وليست روتيناً. وعليه، فإن الحرية مطلب ولكنها قد تكون مشجباً ومطباً كبيراً إذا ما كانت في أيدٍ لا تحسن استخدامها ولا تفهم معناها ولا تملك أدواتها المناسبة.
مناسبة الحديث وهي مناسبات وكل يوم أقرأ وأشاهد ما يثبت الحاجة للحديث عن الموضوع، ولكن الأحدث والأقرب ورود تقرير اقتصادي يوم الأحد (26/8/2007م)، في إحدى كبريات الصحف المحلية نقلا عن تقرير لشركة خليجية كبيرة وهي شركة قابضة لديها خمس شركات تابعة وتعمل في أكثر من قطر خليجي في النشاط العقاري، يتحدث عن الملاءة المالية، وأن الأزمة التي تشهدها الأسواق الأمريكية تؤكد ضرورة إنشاء مؤسسات أو شركات ترصد الملاءة المالية للأفراد والشركات في دول الخليج، وأن شركة واحدة في دبي هي الوحيدة من نوعها في الخليج... إلى آخر التقرير. وكأن الشركة لا تعمل في دول الخليج وربما حتى كاتب التقرير لم يزر دولة خليجية غير التي يعمل فيها ومع ذلك يطالب بإصلاح لا يعلم المتوفر وغير المتوفر منه، حيث يطالب بإنشاء شركات أو مؤسسات ترصد الملاءة المالية وطبعا يقصد شركات المعلومات الائتمانية Credit Bureau. حقيقة لم أستغرب التقرير والمستوى المهني فقد سبق أن كتبت عن التقارير التي تصدر من الشركات التي تعمل في الخليج، وقلت إنها تفتقد الحد الأدنى من المهنية التي تحتاج إليها مثل تلك التقارير، إضافة إلى الأهداف التي تكتب من أجلها. ولكني أستغرب من الصحيفة التي نشرته والتي ربما تنطلق من مقولة "ناقل الكفر ليس بكافر" وإلا كيف يتم نشره في تلك الصحيفة، وهي الصحيفة ذاتها التي سبق لها نقل أخبار عن شركة المعلومات الائتمانية في السعودية وفي أكثر من مناسبة. إذن أين التحرير والمتابعة لما يُنشر ونُشر وحقيقة ما يُنشر؟ ألا يعلم معد التقرير الذي يعمل في شركة خليجية والصحيفة السعودية أن هناك أربع شركات خليجية في كل من المملكة SIMAH والكويت CInet والبحرين (بنفت) ودبي emcredit، وأن هناك لجنة تنعقد كل ثلاثة أشهر بين تلك الشركات للتنسيق GCC workgroup وأن هناك عملاً منذ أكثر من عام لتأسيس شركة في عُمان أيضا، ونعمل على حث قطر على السير على الخطى نفسها. ثم تأتي شركة تدعي أنها تعرف وتعلم وتطالب بإنشاء شركات ترصد الملاءة للأفراد والشركات! هل هذه هي المهنية المطلوبة في تقارير تقول إنها اقتصادية؟؟ نعم، عمر تلك الشركات قصير وحديثة النشأة، ولكن لا يمكن بجرة قلم إلغاء الجهود والادعاء بأنك غير مولود.
وفي خضم هذا البحر المتلاطم الأطراف والتدفق الكبير للمعلومات والأخبار والتحليلات والتوجهات والأجندات الخاصة، يبرز لنا تساؤل بسيط لكنه يحتاج إلى دراسات وبحوث لإيجاد إجابة شافية وافية عنه، وهو يحتاج إلى تداخل ومعرفة بالعلوم الإنسانية المختلفة لإعطاء الإجابة المقنعة. وقبل أن أطرح السؤال وأترك الإجابة لكم دعوني أشرح حيثيات ومسببات بروز التساؤل أكثر فأكثر لعل ذلك يساعد مَن يريد أن يبحث عن إجابة على توفير الكثير من الجهد في البحث. لو أخذنا عيّنة مما كتب خلال السنوات الثلاث الماضية (لماذا السنوات الثلاث الماضية؟) وبالذات فيما يخص الشأن الاقتصادي المحلي لخرجنا بما يلي:
- هناك نقص واضح في مهنية الطرح الإعلامي المكتوب والمسموع والمشاهد رغم التطور الكبير في مساحة الطرح وطرقه والرغبة في التطور، ورغم أن الرغبة وحدها لا تكفي. وللتدليل فقط انظروا كيف تعاملنا إعلامياً مع برنامج مساكن الذي طرحته مؤسسة التقاعد وحالة التضخم والريال بالدولار والأرز وسوق المال وغيرها، ألا يدل هذا على حاجة إلى النظر أبعد في طريقة الطرح بما في ذلك الطرح الذي يأتي ممَن لهم أجندتهم الخاصة. وكدليل آخر نجد أن أحد رجالات الأعمال الكبار لدينا شن حملة واسعة في معظم وسائل الإعلام على إحدى الجهات الحكومية خلال فترة معينة، وفجأة تغير هذا النقد الذي كان في بعض الأحيان جارحاً إلى تودد ومدح وإطراء غير مسبوق، وعند التحقق وجدنا أنه حصل على ما كان يريد!

- ضياع شبه تام لفكرة التخصص وبالذات في كتابة الرأي والتي أصبحت مهنة الجميع، في الوقت نفسه تزامن مع وجود مساحة كبيرة من الحريات التي أصبحت من العلامات البارزة في الصحافة المحلية في الفترة الأخيرة. أصبح - على سبيل المثال - الشأن الاقتصادي، كطرح وليس كاهتمام، يكتب فيه الجميع وينتقد فيه الجميع سياسات اقتصادية صغيرها وكبيرها، سواء كانوا مسؤولين أو رجال أعمال أو جهوداً وقرارات دون أن يكون لديه الحد الأدنى من معرفة خلفيات وأسباب ومبررات تلك القرارات أو التوجهات، إلى الدرجة التي أصبح فيها المسؤول يفضل ألا يتخذ قراراً على أن ينُتقد لجهوده حتى وإن كانت صادقة ومخلصة. أنا لست ضد النقد والتحدث عن أوجه القصور في التنفيذ، ولكن ضد النقد والتشكيك في التوجهات دون معرفة ودون تأكد ودون فهم لحقيقة الأمور، ووصلت في بعض الكُتاب للتشكيك في نزاهة مسؤولين دون أن يكون لديه حد أدنى من المعلومة الموثقة، وكل ذلك مبني على كلام مجالس. وبطبيعة الحال نعرف إعلاميا أن هناك فرقاً بين إبداء الرأي في مسؤول أو إنجاز أو قصور، وهو حق الجميع، وبين التشكيك في النزاهة والتحدث عن الفساد دون وجود ما يثبت ذلك.
- لم أستطع أن أفهم ما الذي تريده كل وسيلة إعلامية محلية بالضبط، في كثير من الجهات الإعلامية العالمية التي تحترم اسمها وسُمعتها يكون لديها خط واضح بدليل أن كثيراً من مفكرينا ومفكريهم عندما يتطرقون إلى صحيفة معينة في الغرب نجدهم ينعتونها بألقاب مثل صحيفة محافظة، متطرفة، مهنية، رسمية (محسوبة على الحكومة) أو صحيفة تابلويد أو ما شابه من ألفاظ. لا مانع من ذلك، ولكن لديها خط واضح يعرفه الجميع، فأين نحن في صحافتنا المحدودة العدد من تلك التصنيفات أو غيرها؟ من خلال متابعة صحافتنا لم أستطع أن أقيم خط صحيفة واحدة لدينا فيما يخص منهجها العام وفلسفتها التحريرية!!! ولم أستطع معرفة رؤية أي صحيفة فيما يخص الشؤون المحلية سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الدينية أو الثقافية، وكأن المسألة سد فراغ والرغبة في الشذوذ عن القاعدة دون مسوغ واضح لهذا التغريد خارج السرب. ورغم أن الزمن أصبح يضيق على تلك الصحف بشكل متسارع، عليها تحديد توجهها وطريقة تعاطيها مع الأمور، وقد أصبحت الصورة أسوأ فيما يخص الإعلام المشاهد، فالهدف ليس تقديم رؤية إعلامية بقدر ما هو إيجاد أقصر الطرق للإثارة السريعة وفي بعض الأحيان الرخيصة لاستقطاب المشاهدين، وبالتالي الحصول على أكبر نسبة من الإعلان الذي تتنافس فيه قنوات لا يُعرف عددها.
- الخبر وبالذات في الصحافة لم يعد ذا أهمية بحكم وجود وسائل أسرع وأحدث لنقله وقت وقوعه أو حتى قبل وقوعه من خلال تغطية مباشرة تلفزيونيا وعبر الجوّالات. وقريبا سنشاهد محطات لا تذيع إلا عبر أجهزة الجوّال فقط وليس لها وجود إلا على أجهزة الجوّال والإنترنت، ومع ذلك نجد أن كل صحافتنا ولا أبالغ إذا قلت إن نسبة 50 في المائة من محتوياتها هي خبرية وليست تحريرية. علما أن لدينا مشكلة واضحة في التحرير وعدم فهم الخبر بشكل سليم ومهني وربطه بعناصره وتداخلات مختلفة ذات علاقة. ويتضح ذلك أكثر عند قراءة الجوانب الاقتصادية في صحافتنا. المؤسف حقاً أنه لا تزال لدينا قنوات تلفزيونية تبث أخبارها نقلا عن الإعلام المكتوب والذي يُفترض أنه يحتاج إلى 24 ساعة حتى يصل إلى تلك القنوات رغم أنها تخصص ساعات كثيرة للجانب الاقتصادي أو قد تكون متخصصة من خلال الاسم الذي تحمله! وما زال ما يكتب عن الخبر أو ما وراء الخبر اجتهادات تفتقد الحد الأدنى من المهنية في قراءة تبعات أو مبررات وتحليلات الخبر، أو أبعاده.
وفي الختام سؤالي البسيط الأول لكم جميعاً يا مَن تحملون راية الإعلام سواء مسؤولين أو مهنيين: هل يمكن لنا كمراقبين نقد الإعلام بأشكاله كافة وهو ينتقد الجميع ليل نهار بحق ودون وجه حق؟ وسؤالي الثاني: هل تملكون الأدوات اللازمة لمثل تلك المهنة التي كانت في السابق ولكثير من الناس مهنة من لا مهنة له؟ أما الآن فالتحدي مختلف والحاجة إلى مستويات مهنية عالية بالذات فيما يخص الشأن الاقتصادي ضرورة وليست ترفاً، وبالتالي مَن منكم يستطيع تعليق الجرس قبل انفلات الحريات إلى سقوف أعلى حيث إن الحريات تحتاج إلى عقول رزينة لاستخدامها وتعظيم الفائدة منها وإلا أصبحت سلاحاً سلبياً لمرحلة حرجة؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي