المسمار الأخير في نعش التضخم
يبدو أن صناع القرار الاقتصادي للشأن المحلي فقدوا القدرة على حل الجانب السلبي لتبعات النمو الاقتصادي المتسارع الذي شهدته المملكة في السنوات الأخيرة، خصوصاً التعامل مع مشكلة التضخم الذي يشهد ارتفاعات متسارعة، خصوصاً هذا العام. وكان آخر التقارير ما نشر يوم الأربعاء الماضي في الصحف المحلية من ارتفاع مستوى تكلفة المعيشة في نهاية تموز (يوليو) إلى 3.8 في المائة. والملاحظ خلال الشهور الماضية أن الردود الرسمية قد اتسمت بالسلبية لعدم قدرتها على تقديم إجابات مقنعة. ولعل آخر تلك التعليقات حول ارتفاع أسعار الأرز هو طلب وزير التجارة من الناس تغيير عاداتهم الغذائية. وهو الأمر الذي يصعب تحقيقه، فالناس الذين عانوا خلال الثمانينيات والتسعينيات انخفاض مدخولاتهم مع تراجع النمو الاقتصادي لم يغيروا عاداتهم الاستهلاكية بشكل ملحوظ، خصوصاً في استهلاك الأرز، فكيف يمكن لهم وهم يشهدون انتعاشاً اقتصادياُ استثنائياً بعمل ذلك الآن. ولم يكن مستغرباً (بل هو مضحكا) أن تستغل مثل تلك الإجابات في طلب تجار التمور إصدار فتوى دينية بجواز إخراج زكاة الفطر من التمر، بدلاً من الأرز بسبب المغالاة في سعره.
ويبدو أن مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) تواجه المعضلة نفسها. فقد رفعت سعر الفائدة للجم التضخم في الربع الأول من العام الحالي، إلا أن ذلك لم يكن مجدياً على الإطلاق في فعل أي شيء تجاه التضخم، وهو ما سبق أن توقعناه في حينه. وتتأزم المعضلة في حال إقدام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي على خفض سعر الاحتياطي الفيدرالي في أيلول (سبتمبر) المقبل، مما قد يضعف من قيمة الدولار. ومعه سترتفع فاتورة الواردات السعودية، وبالتالي زيادة الأسعار (التضخم). وليس من المنطق أن تلجأ "ساما" إلى خفض سعر الفائدة اقتداء بالدولار الأمريكي، لأنها إن فعلت تعترف ضمنياً بتسرعها في رفع سعر الفائدة في الربع الأول من هذا العام، ناهيك عما قد يسببه ذلك من انفراط في معدلات التضخم. ولن تقدم "ساما" على رفع سعر الفائدة على الريال مرة أخرى للجم التضخم لعدم جدواه كما ثبت ذلك، بل قد يؤدي ذلك إلى مزيد من ارتفاع الأسعار، إذ إن الفعل الوحيد هو الانتظار أو عمل لا شيء.
وقد سبق أن اقترحنا على صانعي القرار رفع قيمة الريال السعودي في مقالة نشرت في هذه الصحيفة بتاريخ 25/7/2007. وقد قوبل ذلك الاقتراح بالكثير من الردود المعارضة لهذا الاقتراح. ولعل أهمها تقرير شركة جدوى للاستثمار في هذا الخصوص في 22 آب (أغسطس). ورغم أن التقرير تعرض إلى أسباب كثيرة للدفاع عن سياسة الوضع الحالي، واستشهد ببعض الإحصائيات، إلا أن كل التغيرات التي تحدث عنها التقرير في حال رفع قيمة الريال هي تغييرات اسمية (وأكرر اسمية) وليست حقيقية. فالتغيرات في قيمة الثروات للشركات والبنوك والاحتياطيات الخارجية للحكومة والمؤسسات العامة هي اسمية لا تعكس قوة تلك الثروات الحقيقية. إن ما تجاهله التقرير ـ ولم يتطرق إليه البتة ـ هو أن رفع قيمة الريال سيرفع من القيمة الحقيقة والقدرة الشرائية للحكومة والأفراد، ويعكس بالفعل وضع الاقتصاد السعودي القوي، وفي الوقت نفسه، فإن الاستثمارات الأجنبية والمحلية التي تقودها الشركات ستستوعب ذلك التغير، وتتعامل معه بكفاءة وفاعلية أكبر من الأفراد. مما يجعل العودة إلى استقرار الوضع الاقتصادي وتوازنه بشكل أقوى سريعاً للغاية. وبدلاً من ذلك، أكد تقرير "جدو" أن صانع السياسة النقدية لا يمكنه فعل أي شيء في الوقت الحالي. ولم يتبق لديه إلا الانتظار لعل وعسى يتنوع الاقتصاد المحلي بشكل أكبر مما هو عليه الآن، وهو الأمر الذي انتظرناه منذ السبعينيات ولم يحدث أي تغير جوهري في هذا الشأن، وليس من المؤمل أن يحدث ذلك التنوع في المستقبل المنظور فقد ظل اعتمادنا وسيظل اعتمادنا على النفط هو المسيطر على سياساتنا المالية والنقدية والاقتصادية ككل، مما يجعل الاستسلام للأمر الواقع (أو أن نكون أسرى له) كما يريد منا الداعين إلى الحفاظ على الوضع الحالي هو الحل في نظرهم.
وحتى لا يصل اليأس إلى قلوبنا، والاعتقاد أننا أصبحنا أسرى لسياساتنا المستسلمة، فإن الحلول العملية موجودة، لكنها تحتاج إلى تضافر جهود الجميع. فمسؤولو التجارة ومؤسسة النقد يعبرون عن قدرات مؤسساتهم الذاتية في استخدام الأدوات الإجرائية والسياسية المخولين باتخاذها. لكن اتخاذ سياسات هيكلية أكثر جرأة وقوة كما طرحنا هنا برفع سعر الريال يحتاج إلى اتباع استراتيجية جريئة للسيطرة على التضخم والتعامل مع النمو الاقتصادي القوي الذي تشهده المملكة حالياً، بدلاً من الاستسلام لتبعاته السلبية.
إن قراءة المستقبل في الظروف الحالية تبدو صعبة على مستوى الاقتصاد العالمي، ومعها تصعب أدوات الحل في يد صناع القرار المحلي، مما يجعل طلبهم تغيير عادات الناس أو الدفاع المستميت عن السياسة النقدية الحالية آخر المسامير في نعش التضخم. من هنا فإن الحلول الهيكلية قد تتطلب إنشاء وزارة أو هيئة "للتموين وحماية المستهلك" للحد من الاستغلال (وليس التحكم في التضخم)، وحماية المستهلك حتى يشعر بعدالة الأسعار ويتقبل العوامل المسببة في ارتفاعها. وإذا كان تغيير سعر الصرف أو سعر الفائدة لن يغيرا من التضخم "شروى نقير" كما يرى البعض، فإن رفع القوة الشرائية، بإيجاد قيمة عادلة للريال السعودي أمر مطلوب، يجب التفكير فيه بصورة جدية من قبل صناع القرار في عدة هيئات ووزارات معنية بهذا الشأن، ولن يتأتى ذلك إلا بتوجيه القيادة العليا.