رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


تشكيل الإنسان.. المهمة الصعبة

[email protected]

من المسلم به أن بناء الشخصية الإنسانية ليس عملاً سهلاً، ولا يتم من خلال ضربة واحدة، كالضرب على عصا موسى، بل إن الشخصية الإنسانية هي نتاج جهود، وأنشطة، ومواقف، وظروف متعددة، وتدخل ضمنها الخبرات السارة وغير السارة، والمهمة وغير المهمة، والقوية وغير القوية، مع إدراك الاختلاف في نسبة التأثير التي يسهم بها أي موقف أو ظرف يمر به الفرد أو يتعرض له. وقد سبق للشاعر العربي أن قال بيتاً كثيراً ما نردده ونتحلى فيه ونستشهد به في أحاديثنا ومحاضراتنا ألا وهو:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا

على ما كان عوده أبوه
أقول هذا البيت يعكس حقيقة تاريخية ويمثل قانوناً إنسانياً، ألا وهو الأثر الذي يحدثه الوالدان والأسرة في الفرد، حيث إنهما يمثلان حلقة مهمة في نقل التراث الاجتماعي، والقيم، والعادات، والتقاليد، وجميع مكونات المجتمع الثقافية والقيمية. ومع أن أثر المنزل مهم وكبير في الناشئة إلا أن السياق التاريخي الذي قيل فيه هذا البيت كان سياقاً مختلفاً كل الاختلاف عن الوضع الراهن الذي نحياه، ذلك أن الفترة التاريخية التي قيل فيها البيت لها مكوناتها وأسسها ومنظومتها التي تميزها عن غيرها تميزاً ليس بالضرورة أفضل أو أسوأ، لكنها حتماً مختلفة، فالأسرة في تلك الحقبة لها دور وتأثير واضح في الفرد، والفرد يجد في الأسرة مصدراً للمعلومة، والاستشارة، والحكاية، والخبر حول حدث أو أحداث وقعت في بيئته وفي زمنه أو أزمان سالفه. ولم تكن هناك مصادر تأثير واضحة وقوية، عدا ما قد يسمعه من جلسات السمر مع الأصحاب أو ما يدور من حديث في مجالس الكبار، والتي ليست بالضرورة تتاح للصغار، ولو قدر وحضر مثل هذه المجالس فسيتلقى الشعر، والقصص والأخبار عن الأحداث، مما يسهم في تشكيل شخصيته وبناء عقله وطريقة تفكيره وفق ما كان متوافراً من منظومة ثقافية تصعب مقارنتها بالمنظومة الثقافية والمعرفية المتوافرة في الوقت الراهن، ولو من الناحية الكمية فقط. إن محدودية الظروف الاقتصادية، والثقافية، وشظف العيش، وقلة الموارد، كان لها دور في صناعة الظروف وخلق البيئة التي أسهمت في اقتصار الدور الأكبر في تنشئة الأفراد في الأسرة ومحيطها المحدود، لكن هذا الوضع لا ينطبق على الوقت الراهن وتحدياته وظروفه المتغيرة والمتحولة وإمكانياته الهائلة، إذ إن التقنية، والكتب والمجلات، ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة، والمدرسة، والإنترنت، كلها وسائل أصبحت تزاحم الأسرة في تربية النشء، وفي صياغة الشخصية وتشكيلها، ولم تعد الأسرة هي اللاعب الوحيد في الساحة. شخصية الفرد ذكراً كان أو أنثى، أصبحت تتشكل نتيجة عوامل كثيرة تتداخل فيما بينها، فالأسرة، والمدرس، والقناة الفضائية، والموقع على الإنترنت، لها تأثير واضح في اتجاهات وميول الناشئة، لذا لا غرابة هذا الاختلاف والتمايز الذي نلاحظه على الأبناء في الأسرة الواحدة، فيما يحبون وما يكرهون، وفيما يقبلون، وما يرفضون.
الشخصية في نهاية الأمر هي كيان متكامل من السمات والخصائص الحسنة والسيئة، والعواطف، والميول، والاتجاهات، والعادات التي تشكلت عبر مشوار الحياة الطويل الذي يمر به الفرد وتعرض فيه للكثير من الخبرات والتجارب والمواقف، إن تراكم المواقف والخبرات تمثل مصدراً من المصادر الرئيسية في تشكيل شخصية الفرد، ومع أهمية المواقف القوية أو الشديدة في التأثير على الشخصية إلا أن التكرار والديمومة لخبرات متشابهة أو من نوع معين يكون لها أثر واضح في بناء الشخصية، مما يولد شخصية نمطية يسلك صاحبها ويتصرف بصورة محددة ويفكر بأسلوب معين حتى إنه من السهل مع هذا النوع من الأفراد التنبؤ بما قد يصدر منه من فعل وذلك بناءً على ما يلاحظ عليه من نمطية في سلوكه أو حديثه أو طريقة تفكيره. وقد جاء النهي النبوي عن الزواج من الجميلة التي نشأت في بيئة فاسدة وذلك لأن الأفعال القبيحة التي يتكرر فعلها ورؤيتها من قبل أفراد الأسرة تؤثر في مسلكهم وفي تكوين شخصياتهم ما يزيد من فرصة انحرافهم تأثراً بالوسط الذي عاشوا فيه وخبروه "إياكم وخضراء الدمن".
ومما يؤكد إدراك العرب لقيمة القدوة وأثرها على الآخرين قول الشاعر:
إذا كان رب البيت بالدف ضارباً
فشيمة أهل البيت الضرب والرقص
إن فرصة إهمال الصلاة والتدخين من قِبل فرد نشأ في بيت لا يحافظ أبناؤه على الصلاة أو معظم أبنائه يدخنون ستكون كبيرة لأنه يجد في الوسط الذي يعيش فيه إيحاءً وتشجيعاً بصورة غير مباشرة على هذه الممارسات المنحرفة، فطالما أنه يرى من هو أكبر منه يمارس هذه الممارسات وبلا حرج أو تردد فسيكون ذلك مشجعاً له على سلوك الطريق نفسه ولن يجد أي شعور لمقاومة أو رفض هذه الممارسات.
إن تكامل الغرائز، والحاجات البيولوجية التي أودعها الله في الإنسان بغرض استمرار الحياة مع مؤثرات البيئة التي يكتسبها الفرد في الظروف الكثيرة والمتنوعة من شأنه أن يشكل شخصية الفرد في جوانبها المتعددة الوجداني، العقلي، والسلوكي، وهذه الشخصية بهذه المكونات الثلاثة العامة مع ما بداخلها من تفاصيل، هي ما نجده في واقع حياة الفرد حين يتفاعل مع أفراد أسرته، أو مع جيرانه، أو مع زملاء العمل أو الدراسة، أو في الشارع وهو يقود سيارته. ولو قدر لأحدنا وأمعن النظر فيمن حوله من الناس حين يكون في الشارع، أو السوق لاكتشف العجب العجاب فهذا يلبس ملابس بشكل، وبلون قد لا يعجبنا، ونحن نلبس ملابس تعجبنا لكنه لا تعجب الآخر، وثالث يركب سيارة لا تروق لنا على الإطلاق ، ورابع يتصرف بطريقة نستهجنها وتثير الاشمئزاز والتقزز لدينا، على أن هذه الأمثلة لا تعني عدم وجود قواسم مشتركة بينهم، فالمشترك بين البشر كثير، خاصة إذا كانوا من مجتمع واحد وينتمون لثقافة واحدة تقدم لهم في الغالب بصورة نمطية واحدة وفق إجراءات متشابهة، ومع ذلك يبقى التمايز، والتباين هو السمة البارزة بين الناس خاصة في طريقة التفكير، ونوع المشاعر، وردود الفعل، وطريقة التعبير عنها، ومن ثم السلوك والأفعال التي تجسد الفكر والمشاعر.
إن في التباين، والتنوع حكمة إلهية لا ندرك قيمتها إلا من خلال التمعن في هذه الحياة التي لولا التنوع لما حدث العطاء، والإنتاج، والإبداع في كل مجال من مجالات الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإنسانية، والدولية، والمحلية، والفردية، والأسرية، والرسمية، وغير الرسمية. فسبحان من جعل من التباين قوة ونماء واستمراراً للحياة، وتكاملاً بين الناس فيما يرغبون، ويهوون، ويقدرون على فعله، إذ إن كل واحد يمارس دوراً يحتاج إليه الآخرون، لذا فهو في حاجة إليهم وهم في حاجة إليه. وبهذا يستمر تدفق الحياة والعطاء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي