مراكز الدراسات.. استقلالية "أوبك" نموذجاً
لا تأبه الدول النامية بالإنفاق على الأبحاث والتطوير، وقد لا تأتي في أجندتها التنموية على الإطلاق. فقد دأب معظمها في الاعتماد على صناعة المعرفة والتوقعات المستقبلية على مراكز البحث في الدول المتقدمة. لدرجة أن معظم تلك الدول أصبحت أسيرة لما ينشر من معلومات وبيانات إحصائية لتلك المراكز، حتى أصبحت تتخذ قرارات مهمة بناء على معطيات تلك المعلومات. وفي الآونة الأخيرة، يبدو أن هناك ومضات جيدة تشير إلى توجه بعض تلك الدول إلى الاهتمام بمراكز البحث والتطوير. ولعلني في هذه المقالة أتطرق إلى مسيرة "أوبك" والسعودية في توجهها إلى تشجيع البحوث والدراسات في مجالات النفط والطاقة وغيرها من المجالات، حيث إن أثرها أصبح ملموساً على الدول المصدرة للنفط بالتحديد.
لقد ظلت الدول المصدرة للنفط ولفترات طويلة تعتمد في إحصائياتها وبياناتها على ما تقوم به الدول الغربية من نشر لإحصاءات العرض والطلب على النفط، وخصوصاً ما ينشر من إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، ووكالة الطاقة الدولية التابعة لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. ومنذ ثلاث سنوات تقريباً، بدأت "أوبك" بتطوير مركز الدراسات والأبحاث التابع لها، حيث بدأ بشكل دوري ومنتظم بنشر تقارير عن السوق النفطية. وأصبحت "أوبك" تتحدث بلغة الواثق تجاه سياساتها التي تعتمد على العوامل الأساسية التي تؤثر في العرض والطلب. وتتجنب الخوض في العوامل السياسية والجيوسياسية، ولا تلقي بالاً لاتهامات الساسة الغربيون وغيرهم أنها منظمة محتكرة ترنو إلى رفع أسعار النفط في كل فرصة تلوح لها.
لقد أسهمت لغة الأرقام والدراسات الإحصائية إلى جعل مسؤولي الدول المصدرة للنفط أكثر ثقة ودقة في ردودهم على العوامل المؤثرة في أسعار النفط، وكذلك أكثر مصداقية، مما جعل اتهامات بعض مسؤولي الدول المستهلكة تذهب أدراج الرياح. ويبدو أن اللغة البراجماتية التي بدأت تستند عليها "أوبك" كانت نتاج الجهود التي تبذلها السعودية في التوجه إلى صناعة المعرفة والاعتماد على لغة الأرقام والأبحاث العلمية. ولعل أهم الخطوات في هذا المجال هو تبني السعودية "منتدى الطاقة" الذي يجمع بعض الدول المنتجة للنفط والمستهلكة لخلق بيئة من التفاهم تتخذ من واقع المتغيرات الجوهرية في صناعة الطاقة مرتكزاً لمناقشتها، فتخرج عقلانية ومفيدة للدول المنتجة والمستهلكة على حد سواء.
وتأتي الخطوة الأهم في إصدار مجلس الوزراء لقراره بإنشاء مركز للدراسات والبحوث النفطية. ورغم أننا لم نطلع على الخطوط التفصيلية أو العريضة لهذا المركز، إلا أننا نأمل أن يحقق طموحاتنا في جعله مركزاً عالمياً لأبحاث الطاقة بكل أنواعها. حيث نتطلع أن يضع السعودية في صدارة الدول في علوم الطاقة (شمسية، غاز، نووية، كهربائية)، وليس النفط فحسب. ويأتي هذا الأمل والتطلع مكسو باليأس نتيجة خيبات أملنا السابقة في مراكز الأبحاث في الجامعات والوزارات والمعاهد المنتشرة في السعودية. ولكن تطلعاتنا كبيرة بهذا المركز لأنه صدر من أعلى سلطة في البلاد (مجلس الوزراء)، مما يجعلنا نتطلع إلى العالمية في ريادة أبحاث الطاقة.
ويزيد من تطلعاتنا الموجة الخافتة التي نلحظها بين الفينة والأخرى في إنشاء أو دعم مراكز الأبحاث. ففي هذا الإطار، تأتي دعوة جامعة الملك سعود إلى تبني "كرسي دراسات" وهو موجه للقطاع الخاص لتبني بعض الدراسات التي تخدم أنشطة القطاع الخاص المعنية. وفي اعتقادي أن تلك الخطوة لا تستهدف تشجيع الأبحاث والدراسات فقط، بل وربط الجامعة بالدراسات العملية والتطبيقية، وجعلها أقرب لواقع المجتمع، مما يخلق التفاعل المطلوب بين الجامعة والمجتمع. ولم يكن القطاع الخاص وحده المعني بتطوير الدراسات والأبحاث ، بل إن بعض الأفراد الميسورين يقومون بدعم بعض المناشط البحثية والعلمية. ولعل أبرز مثال حي لذلك هو ما تفضل به الأمير سلطان بن عبد العزيز بتبرعه ببناء مركز لجمعية الاقتصاد السعودية. وهو الأمر الذي سيسهم بدرجة كبيرة في تشجيع الدراسات الاقتصادية والإحصائية التي تخدم اقتصاد المملكة.
إن التوجه إلى المعلومية والأبحاث أمر يصعب قياس عائداته على الاقتصاد المحلي بصورة مباشرة، إلا أن تأثيراته غير المباشرة تتمثل في جعل المجتمعات أكثر معرفة واطلاعاً ووعياً لما يؤثر فييها، وما تستطيع التأثير فيه، وبالتالي اتخاذ قرارات مدروسة تساعد على دفع عجلة النمو وتجعلها أكثر استقلالا واستقراراً على حد سواء.