قم للاقتصاد ووفه التدبيرا
لا أكاد اليوم أحضر مجلسا من المجالس التي يرتادها أهل الفكر والاختصاص ورجال المال والتجارة، حتى يأخذهم الحديث في الشأن والهم الداخلي. وقد تنوعت هموم الناس لكنها تصب كلها تقريبا في نهاية الأمر في الشأن الاقتصادي، وإن تحدثوا بين الحين والآخر في بعض شأنهم الاجتماعي. وقد لاحظت قاسما مشتركا بين هذه الأحاديث، فكلها تتساءل بأسى وأسف شديدين عن الإخفاقات الاقتصادية المتتالية والاختناقات المعيشية الجارية التي يعاني منها الناس في فترة كان يفترض فيها أن تكون رمزا للرواج والرخاء الاقتصادي، بالنظر إلى العوائد التاريخية العالية لدخل البلاد من مبيعات النفط !
منذ تراجع عوائد النفط في التسعينيات من القرن العشرين وغزو العراق للكويت وما ترتب عليها من تكاليف باهظة، والناس يعانون من تردى أوضاعهم الاقتصادية. هناك معاناة من تدنى مستوى وفرص التعليم العالي والمتوسط، ومن ضعف فرص العمل وانتشار البطالة بين المتخرجين من أبنائهم وبناتهم. ومعاناة كذلك من الرسوم العالية التي فرضت في فترة الضيق المالي على بعض الخدمات، على وعد بأنها ستكون رسوما مؤقتة ستزول بزوال أسبابها. ومن تفاقم مشكلة الإسكان في مجتمعنا.
وعندما أهلت فترة عوائد النفط العالية في السنوات القليلة الماضية، استبشر الناس خيرا بقرب زوال هذه الاختناقات. لكن للأسف لوحظ أن البلاد انزلقت بشكل متسارع ومخيف في مضاربات محمومة في سوق الأسهم بطريقة لا عهد للبلاد بها من قبل. ساعد على ذلك ضخامة الأموال التي دارت فيها وسهولة ممارسة الأفراد للمضاربات من خلال ما وفره الحاسوب وشبكة الإنترنت من تسهيلات. كان أسوأ ما في هذه المضاربات أنها عطلت الإنتاج شيئا فشيئا، وحولت الثروات تدريجيا نحو نشاط مضاربي غير منتج وعالي المخاطر. وكان لتطور المكاسب المذهلة في هذه السوق على مدى ثلاث سنوات متتالية، وسكوت المسؤولين عن توجيه وتخطيط سياساتنا الاقتصادية عن هذا الانحراف الخطير في توجه الثروات، دورا في دفع بقية الناس ممن ظل معهم بقية من ترو وشيء من الحكمة الاقتصادية، للانخراط في هذه المضاربات وتوريط أنفسهم فيما كانوا يحجمون عنه لمعرفتهم بمخاطره العالية. لكن التطورات المغرية والملابسات المصاحبة لهذه الأحداث بدت وكأنها دعوة للجميع بأن طريق الاستفادة من الفترة الاقتصادية الجديدة لن يكون من خلال بيع وشراء الأراضي الفضاء كما جرى في طفرة السبعينيات، وإنما سيكون من خلال المضاربات في أسهم الشركات. فانخرط فيها الكثير، حتى إذا ما استحكمت حلقاتها، أتي أمر انهيارها بغتة وهم حالمون. فغدا القوم فيها بين صرعى لا يقوون على الحياة، وسكارى يهذون وما هم بسكارى ولكن ألم الخسارة شديد !
ومن هول الكارثة ظل الناس شهورا لا يصدقون ما جرى ويأملون أن تكون حالة مؤقتة. فإذا الشهور تمضي والخسائر تفنى، حتى فقد بعض الناس نحو 80 في المائة من مدخراتهم. وما كاد الناس يفيقون ويتأكدون من واقعهم الأليم، حتى فوجئوا بطامة تضخم الأسعار تزحف وتنهش ما تبقى من دخولهم. وتوالت هذه النكبات ليكتشف الناس أن عليهم أن يضيفوا لمعاناتهم القديمة، إخفاقات جديدة، منها على سبيل المثال :
نقص عرض أو تدني مستوى بعض الخدمات العامة (الماء والخدمات البلدية) إما بسبب سوء التخطيط أو بطء اتخاذ القرارات السليمة في الوقت المناسب. وما ذاك إلا بسبب المركزية الشديدة في صنع القرارات. ومن ذلك مشاريع تحلية المياه كمثال لحالة البطء في اتخاذ القرارات. فقد قام بعض رجال الأعمال قبل نحو خمس سنوات بدراسات جدوى اقتصادية لمشاريع تحلية المياه كلفتهم نحو خمسين مليون ريال، دلت بشكل قاطع على حاجة البلاد الماسة إلى زيادة الإنتاج من المياه المحلاة بالنظر إلى النمو السكاني المتوقع، لكن هذه الدراسات ظلت تدور في أروقة الجهات الحكومية عددا من السنوات تنتظر الإذن بالبدء، حتى تفاقمت أزمة المياه في بعض مدننا كما شاهدنا أخيرا، على الرغم من أن هذه المشاريع لم تكن بحاجة إلى تمويل حكومي، لأنها رتبت على أساس نظام التشييد والتشغيل ثم تحويل الملكية BOT.
ارتفاع تكاليف و/ أو تدنى مستوى وكفاءة بعض الخدمات التجارية بسبب استمرار الاحتكار الذي يحكم سوقها. كخدمات القطاع المصرفي، وخدمات النقل الجوى الداخلي. أما ارتفاع تكاليف التمويل المصرفي، فقد بح صوتنا من المناداة بضرورة كسر هذه الاحتكارات. لكن الصوت الوطني لا يطرب! فجاءت منظمة التجارة العالمية تكسر هذه الاحتكارات ليس بقوى وطنية وإنما باستثمارات بنكية إقليمية وأجنبية. وقد أخذت أخيرا بنوكنا تفكر بجدية في تخفيض تكلفة التمويل لمواجهة المنافسة من البنوك الخليجية. أما تردي خدمات النقل الجوي الداخلي، فقد بلغت درجة من السوء هذا الصيف فاق كل تصور، على الرغم من بدء ثلاث شركات خاصة العمل في هذا الحقل، ما يدل على مقدار الثغرة الواسعة بين الطلب والعرض في سوق هذه الخدمة.
أما ثالثة هذه الإخفاقات وليس آخرها، فهي قدم العهد ببعض القوانين الحكومية المنظمة للأنشطة التجارية وتخلفها عن مجارة متطلبات ودواعي المنافسة العالمية، وفي أحيان أخرى عدم واقعية بعضها. فإجراءات الحصول على تراخيص مزاولة الأنشطة التجارية مازالت معقدة وبطيئة. كما أن رجال الأعمال مازالوا يشكون مر الشكوى من صعوبة الحصول على تراخيص العمل المناسبة، حتى تعطلت لغة المشاريع بينهم كبيرها وصغيرها ! وإن حدث وتمكن بعضهم من الحصول على جزء من بغيته من هذه التراخيص، فبتكاليف مضاعفة ثلاث وأربع مرات عما كانوا يعهدونه، الأمر الذي ساهم في ارتفاع الأسعار التي يتحملها المستهلكون في نهاية الأمر. والقصص في هذا الشأن وفيرة.
لست متشائما، ولكن ما دامت مشاكلنا مستمرة وعلاجها ممكنا، فالتنبيه واجب. ليتنا ندير اقتصادنا بمنطق وفكر القطاع الخاص، لأمكن حل كثير من مشاكلنا بين ليلة وضحاها !