الإسرائيليون بحاجة إلى من يشرح لهم المبادرة
قبل القمة العربية التي عقدت في الرياض كانت هناك إشارات من الإسرائيليين والأمريكيين برغبتهم في قيام الدول العربية بالتأكيد مجددا على تأييدها للمبادرة العربية، ما يفتح المجال أمام إحيائها من جديد وبدء مفاوضات جادة بين العرب والإسرائيليين حولها، إلا أنه وحال تأكيد الدول العربية تأييدها التام لتلك المبادرة ادعى الإسرائيليون أنهم يجدون صعوبة في فهمها، واقترحوا قيام مسؤولين عرب بزيارة إسرائيل وشرحها لهم علهم يستوعبونها ويدركون أبعادها. بناء عليه، قام اثنان من وزراء الخارجية العرب الأسبوع الماضي بزيارة إسرائيل لإنجاز هذه المهمة، إلا أن المشكلة كانت في أن الشرح من قبل وزيرين فقط لم يكن كافيا ولا مفهوما بالنسبة للإسرائيليين، لذا فقد اقترحت إسرائيل إعادة المحاولة مرة أخرى إنما في المرة المقبلة بعدد أكبر من وزراء الخارجية العرب علهم يكونون أقدر على شرحها وإيصال مضمونها. هذا المقلب الذي وضع العرب أنفسهم فيه نتيجة طبيعية لتحاشيهم مواجهة العنجهية الإسرائيلية الرافضة للمبادرة العربية، وبحثهم عن حجج تبرر استمرار تمسكهم بها رغم رفضها الفعلي من الإسرائيليين، ما جعل الإسرائيليين يستخفون ويسخرون منهم بهذه الطريقة المبتذلة، وبدت هذه المبادرة الواضحة الجلية كما لو أنها واحدة من أصعب نظريات الفيزياء النووية، التي يحاول أحدهم شرحها لأمي بليد محدود القدرة الاستيعابية، وأمام إصرار هذا البليد على الفهم يكرر المحاولة مرة تلو أخرى.
هذا الواقع المزري نتيجة حتمية لضحكنا على أنفسنا وتصديقنا ما لا يصدق، الأمر الذي أتاح للآخرين استغفالنا والسخرية بنا بهذه الصورة المزرية. فالمبادرة العربية واضحة لا تتطلب شرحا ولا إيضاحا، ويفترض أنها تمثل الحد الأقصى لسقف التنازلات التي يمكن للجانب العربي القبول بها سعيا لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وهي تفي بمعظم إن لم يكن كل المتطلبات الإسرائيلية التي طالما ادعت إسرائيل أنها تمثل مطالبها لتحقيق سلام شامل مع العرب، ورفض إسرائيل لها الآن يؤكد أن هذا طريق مسدود لن يحقق السلام وليس هناك أي مبرر لمواصلة السير فيه. فإسرائيل وأمام تهاوي الجبهة العربية وتشرذمها وجدتها فرصة سانحة لرفع سقف توقعاتها ومطالبها، بحيث أصبحت تطمح الآن إلى أبعد من مجرد تحقيق السلام، وتعتقد أن بإمكانها الوصول إلى حل يصفي القضية الفلسطينية وينهيها تماما، في الوقت الذي تحصل فيه على سلام وتطبيع كامل مع العرب، لذا فهي تستخف بهم وتستدرجهم إلى مزيد من التنازلات ومستويات أعلى من التطبيع تفقدهم كل قدرة على المقاومة وتوحيد الصف، وفي غضون ذلك تلهيهم بوهم الحاجة إلى مزيد من الشرح لهذا البليد العصي الفهم.
إن العرب مطالبون بالكف عن استجداء الإسرائيليين والتسول على أبوابهم متوهمين أن هذا الاستجداء سيسهم في تغيير موقف الكيان الصهيوني، فكل ما يقومون به فعلا هو إحراق ما بقي في أيديهم من أوراق واحدة بعد أخرى، وما يحتاجون إليه فعلا هو قيامهم بتحول استراتيجي يجبر الإسرائيليين على قبول السلام أو أن يضطروا لدفع ثمن تسويفهم، من خلال قرار قومي عربي باستخدام قوتنا الناعمة، إن جاز التعبير، بهدف تقوية كفتنا في هذا الصراع، وهذه القوة الناعمة لعلها تكون أقوى وأشد فتكا من قوتنا غير الناعمة التي زادت نعومتها مع مرور الوقت وفقدت كل قدرة لها على حسم النزاع أو التأثير فيه. فمن خلال تشديد المقاطعة الدبلوماسية لإسرائيل بجميع أشكالها، والعودة من جديد إلى المقاطعة الاقتصادية بجميع مستوياتها، مستغلين الأهمية الاقتصادية المتزايدة للعرب في ظل استمرار ارتفاع أسعار النفط العالمية وشح العرض النفطي، يمكن أن نزيد من الثمن السياسي والاقتصادي لهذا التسويف الإسرائيلي، خاصة إن اتخذت هذه الجهود مسارا تصاعديا مستمرا دون تراجع إلى أن تظهر بوادر تعامل غير هزلي مع المبادرة العربية من جانب الإسرائيليين وحلفائهم، وواكبها دعم عربي كامل لصمود الشعب الفلسطيني في وجه الاحتلال من خلال تقويض الحصار المفروض عليه ومساعدته على تجاوز الصعوبات المعيشية المضنية التي يعانيها بسبب سعي إسرائيل إلى كسر ظهر المقاومة الفلسطينية وتصفية القضية، أما أن نقوم بإيفاد مزيد من وزراء الخارجية لشرح المبادرة العربية لهذا الغبي الإسرائيلي الذي لم يستطع فهمها، فلا يعدو كونه استغفالا يحقق مزيدا من التطبيع المجاني لإسرائيل ويجعلنا موضع سخرية لا أكثر.