البنوك الإسلامية مهيأة لأن تتبنى استراتيجيات استثمارية سلبية

البنوك الإسلامية مهيأة لأن تتبنى استراتيجيات استثمارية سلبية

"البنوك الإسلامية مهيأة لأن تتبنى استراتيجيات استثمارية سلبية، من قبيل شراء الموجودات والاحتفاظ بها لفترات زمنية طويلة، وأن تحتفظ باحتياطيات فائضة على الأجل القصير، بسبب الافتقار إلى ما يكفي من فرص إعادة الاستثمار على المدى الطويل".

إن الأسواق المالية الإسلامية هي بصورة عامة غير مستغلة على الوجه الأمثل وفيها جوانب قصور. كما أن القيود الشرعية على الاستثمارات المباحة تستبعد الأشكال التقليدية من الديون التمويلية الحاملة للفوائد. وفي غياب الدين القابل للمتاجرة، إلى جانب مشكلات التقييم لعقود التمويل، فقد ثبت أن مفاهيم المصرفية الإسلامية تتميز بقدر من الصعوبة، خصوصاً بالنسبة لإدارة الأموال. فالبنوك العاملة حسب أحكام الشريعة الإسلامية مهيأة لأن تتبنى استراتيجيات استثمارية سلبية، من قبيل شراء الموجودات والاحتفاظ بها لفترات زمنية طويلة، وأن تحتفظ باحتياطيات فائضة على الأجل القصير، بسبب الافتقار إلى ما يكفي من فرص إعادة الاستثمار على المدى الطويل. وكان من شأن هذا تثبيط عمليات الوساطة المالية الفاعلة وإعاقة تعميق الأسواق الرأسمالية. ومع ذلك تمكنت المؤسسات المالية من تطوير أشكال متنوعة من الوسائل والأوراق المالية الإسلامية التي تعتبر في حكم المطابِقة من حيث الجوهر للأساليب الاستثمارية التقليدية. ولكن، كما سأبين في هذا البحث، فإن الأوراق المالية الإسلامية ليست مجرد بدائل عن الأوراق المالية التقليدية الحاملة للفوائد ولا هي تقلد هيكل أسعار الفائدة.
وقبل أن ندرس مضامين الالتزام بالشريعة وآثارها في التمويل ذي الهيكل التقليدي، فإن من الضروري أن نوضح طبيعة الارتباط بين " التمويل المهيكل الإسلامي" Islamic securitization وموقعه ضمن المالية الإسلامية.
حيث إن معظم المنتجات المالية الإسلامية تقوم على مفهوم الاستناد إلى الموجودات، فإن المفهوم الاقتصادي للتمويل المهيكل للموجودات ملائم بصورة خاصة للمفاهيم الأساسية للتمويل الإسلامي. ويدور هذا التمويل حول عملية ونتيجة إصدار شهادات ملكية كنوع من الحماية من التدفقات النقدية الحالية أو المستقبلية من مجموعة متنوعة من الموجودات "المحفظة المرجعية" بالنسبة للمستثمرين. وهي تسجل باعتبارها آلية بديلة لإعادة التمويل قائمة على الأسواق الرأسمالية بهدف تنويع المصادر الخارجية لتمويل الموجودات بدلاً من تمويل الدين بالوساطة، والقائمة أساساً على تقييم المخاطر للموجودات المورقة.
إن " التمويل المهيكل الإسلامي "يحول "اقتسام المخاطرة الثنائية" بين المقترضين والمقرضين في التمويل الإسلامي إلى "إعادة تمويل قائم على السوق" لواحد أو أكثر من التعاملات التمويلية الإسلامية الكامنة. وفي صورتها الأساسية، فإن الجهة المنشئة للعملية تبيع الإيرادات الحالية أو المستقبلية من المبالغ الدائنة من الإيجارات (أي القائمة على الموجودات) "الربح الناتج عن البيع للمشتري الأصلي" (القائم على الدين) أو الأسهم الخاصة من محفظة تشتمل على موجودات مقبولة إسلامياً إلى شهادة للأغراض الخاصة، التي تعمل على إعادة تمويل نفسها من خلال إصدار أوراق مالية غير مؤَمَّنة إلى المستثمرين في السوق، الذين يقومون بدور "ملحق السوق المالية" إلى مقترض بمفرده في التمويل الإسلامي. وهم يتخذون دور "الممول الجماعي" الذي لا يتضمن استثماره المغامر أرباحاً مضمونة قائمة على الفوائد.
وتمشياً مع العرض السابق الوارد أعلاه للأشكال الثلاثة الأساسية للتمويل الإسلامي، نستطيع توضيح مفهوم "التمويل المهيكل الإسلامي بأن نعكس التقييمات التقديرية للمبالغ العائدة على المقرض من التعاملات التمويلية الإسلامية. وباستخدام هيكل تمويلي يعتمد تجميعاً على الأوراق المالية ذات الدخل الثابت (القائمة على مجموعة من الموجودات) على العوائد المتحصلة من محفظة مرجعية متخصصة لواحد أو أكثر من عقود المضاربة الآجلة مع تأجيل التسليم أو الدفع (ما يعني الضمان المحدود نظراً للخطورة السوقية أو الأمور الطارئة الأخرى الناجمة عن أحكام معينة تتعلق بالدفع وإعادة الشراء)، وتكون الجهة المنشئة للعملية قادرة على إصدار التزامات مالية غير مؤَمَّنة، بحيث يُدعم المبلغ الكامل للمستثمر بالمبلغ المتوقع من التسديد. ويتلقى المستثمرون المبلغ الكامل لرأس المال وحصة محددة سلفاً من الأرباح (كعائد على الاستثمار).
وفي كل مرة لا يستطيع فيها المُصدِر تسديد بعض أو كل العائد الموعود (ومبلغ الاستثمار الإضافي)، يحدث العجز عن السداد. فإذا لم يكن لدى الجهة المنشئة للعملية أموال لتمويل الموجودات الكامنة في المقام الأول، فإن مبلغ إعادة التسديد المتوقع سيُخفَّض بقيمة الموجودات المستحقة للطرف الثالث باعتباره "مورد الموجودات" خلال مدة عملية الإقراض، وهذا الطرف يكون مقترضاً للموجودات ويبيعها دون امتلاكها.

أ - تكييف مبادئ التمويل الإسلامي مع إصدار التمويل المهيكل

يتطلب تنفيذ التمويل المهيكل عملية تحقق "أساسية" من مرحلتين يتم عبرها تقييم التقيد مع الأحكام الشرعية لـ (1) نوع الأصول في الحقيبة المرجعية الأساسية وتوليد عوائد استثمارية و(2) هيكل العملية، الذي يتضمن شكل تعزيز الائتمان (وغير ذلك من أشكال دعم الائتمان والسيولة) وشكل نقل الملكية. إن التمويل المهيكل يفتقد الدخل المتأتي من الفائدة الربوية، ويجب أن تتم هيكلته على نحو يعود بالنفع على المستثمرين مقابل تعرضهم المباشر للخطر الذي يمكن أن ينجم عن العمل الذي استثمروا فيه، أي أن المستثمرين يتلقون جزءاً من الأرباح بما يتناسب مع مقدار الخطورة المترتبة عليهم بدلاً من الحصول على فائدة محددة مقدماً. إن أنواع موجودات نظام التمويل الإسلامي الثلاثة جميعها تصلح من حيث المبدأ لتصبح تمويلا مهيكلا إسلاميا، ولكن المسائل العالقة، ومن بينها القيود المفروضة على الاتجار بالديون أو إدارة خطر الدفع المسبق، يمكن أن تحد من استخدامها العشوائي كضمانات إضافية.
وتنطبق خصائص التمويل المهيكل التقليدي فقط إذا نقلت عنصراً كافياً من عناصر الملكية للمستثمرين كما ينقل الاستثمار في المشاريع في النشاط الاقتصادي الحقيقي ضمن ترتيب هيكلي خال من الفائدة. وإضافة إلى ذلك، فإن الأمور الإدارية، كمقاييس التعهد، وتحديد مكان الإصدار، والحصول على التصنيفات، تخضع للتمحيص الديني. ذلك أن أي مال يتولد من إصدار التمويل المهيكل ينبغي أن يستعمل فقط لسداد التمويل الأولي.
أما التمويل المهيكل التقليدي، الذي نشأ في الاقتصادات غير الإسلامية فيشتمل على دين بفائدة ثابتة. إن حملة الكمبيالات يحملون في العادة مطالبات شرطية (مضمونة) على أداء الأصول أو الموجودات التي تمت هيكلتها، الأمر الذي يجعل من حقهم الحصول على الفائدة المحددة مسبقاً وعلى رأس المال الذي دفعوه. بيد أن إصدار سندات بفائدة مع ضمان استرداد رأس المال لا يمكن التوفيق بينه وبين مبادئ التمويل الإسلامي حول تحريم الربح المتأتي من الدين أو المضاربة. ذلك أن العلاقات المالية بموجب الشريعة الإسلامية لا تحكمها الفائدة بل تقاسم خطورة العمل (والعوائد) الناشئة عن الاستثمار فيما هو محلل شرعاً من خدمات أو تجارة أو منتجات، مع وجود حقوق أو التزامات واضحة وشفافة للمستثمرين وعليهم. وعلى وجه الخصوص، فإن أية مكاسب تتأتى من أوراق مالية إسلامية تعطي دخلاً ثابتاً، تتعلق بالغرض الذي يستخدم التمويل من أجله. وبموجب أحكام الشريعة الإسلامية، فإن هذا الغرض ينبغي أن يتضمن تمويل أو إنتاج موجودات حقيقية وليس شراء أوراق مالية، الأمر الذي يرقى إلى التمويل من الدرجة الثانية الذي يشبه الإقراض الخاص بالمشتقات، ويكون الجزء التالي من العملية مبنياً على المضاربة. إن التمويل المهيكل الإسلامي لا بد أن يعطي المستثمرين حقوقاً واضحة ومحددة وترتب عليهم التزامات واضحة ومحددة في الموجودات التي تمت هيكلتها لكي تتحقق المشاركة المباشرة في أي توزيع للخطورة والعائد بين الدائنين والمدينين مع تخفيف وطأة الخطورة و/ أو التعويض من خلال تعزيز الائتمان.
من هنا، فإن تكييف المبادئ الأساسية التمويل المهيكل التقليدي لأغراض إسلامية يتطلب التقيد بالشروط التالية: (1) يجب أن يكون هناك غرض حقيقي لجمع الأموال عبر التمويل المهيكل، ويجب أن يكون نوع الموجودات الضامنة التي تحقق الإيرادات المضمونة بالتمويل المهيكل محدداً(أو قابلاً للتحديد) بشكل واضح ولا يمكن استهلاكه، (2) يجب على كل مشارك في العملية أن يشارك في المخاطر والعوائد، ويجب أن يتلقى المستثمر مكافأة إيجابية من المشاريع المربحة فقط، (3) يجب ألا تكون الموجودات الضامنة ديناً أو نقداً أو حراماً، ويجب ألا تقترن بأي شكل من الأشكال بأعمال غير أخلاقية أو استغلالية، أو بالمضاربة أو عدم اليقين (الغرر) من استثمار غير منتج، (4) أن يشتمل هيكل السند على تقديم تعويض للمستثمر مقابل ما يتحمله من خطورة ناجمة عن العمل جراء مشاركته في موجودات تحولت إلى تمويل مهيكل ولا ينبغي أن ينطوي على مبادلة الدين بعائد استثماري يولد فائدة ربوية (ما لم تكن تلك الموجودات خالية من الفائدة وتم بيعها بالقيمة الاسمية)، (5) ينبغي أن يحمل المستثمرون التزاماً غير مشروط وغير مضمون بالدفع، ولا يجوز أن يحملوا سنداً إذنياً مضموناً، (6) يجب نقل عنصر ملكية كاف للمستثمرين، (7) لا يجوز إعادة استثمار الإسهامات المقدمة من المستثمرين على شكل متحصلات من السندات الصادرة (وأية عوائد يولدها وكيل الإصدار من إدارته للموجودات الضامنة) في أدوات نقدية قصيرة المدى أو دين بفائدة ربوية، (8) لا يجب توظيف الأصول الأساسية والالتزامات المضمونة لأغراض المضاربة، وينبغي أن يظل مردودها منخفضاً)، (9) نظراً لأن التأمين التقليدي يخالف الأحكام الشرعية، يجب أن يستخدم بدلاً منه نظام التكافل (وهو تأمين إسلامي يقوم على التعاون والمساعدة المتبادلة)، (10) يجب أن يكون أي شكل من أشكال تعزيز الائتمان و/أو دعم السيولة والقيود الخاصة بخطورة السداد المسبق على نحو محلل شرعاً.
ويبدو أن هيكل الدفع التقليدي القائم على الأوراق المالية التي تُمرر بين المدينين (المشاركة في الحصص) للسندات التقليدية هو الأقرب إلى التفسير المتشدد لأحكام الشريعة الإسلامية التي تقتضي تحويل حد أدنى من الملكية لضمان وجود مشاركة مباشرة للمستثمر في الخطورة التي تقترن بأداء مختلف أنواع الموجودات التي تحولت إلى تمويل مهيكل. وإذا أزالت الأوراق المالية التي تُمرر بين المدينين هذه الموجودات من الميزانية العمومية للجهة المنشئة، فإن نقل الملكية عبر البيع الحقيقي يفي ضمناً بثلاث قواعد أخرى هي :(1) تخصيص التدفقات النقدية من الأصل الأساسي لتأسيس ربط حصة التملك بالنشاط الاقتصادي المحدد، (2) السداد غير القابل للنقض ولكن غير المشروط وغير المضمون من الموجودات الأساسية، (3) هيكل عملية لا تشتمل على دفع فائدة ربوية. فعلى سبيل المثال، فإن السندات المضمونة بموجودات مدرجة في الميزانية العمومية تخصص متحصلاتها، ولكن يتم نقلها عبر الدين بفائدة ربوية، غير مؤهلة لأن تكون سندات مناسبة بموجب هذه القواعد. وعلى أية حال، فإن نقل الملكية على نحو يتوافق مع الأحكام الشرعية في الأوراق المالية التي تُمرر بين المدينين يمكن أن يصمَّم بدوره على نحو يجمع خصائص الملكية بشكل بسيط، كالتنازل عن جزء من حقوق الملكية والالتزامات المترتبة عليها، ما يمكّن المستثمرين من ممارسة السيطرة على الموجودات التي تم تحويلها إلى تمويل مهيكل، وتولي العمليات أو حتى بيع الموجودات المحولة إلى تمويل مهيكل لتحقيق قيمة استرداد مطالبتهم الاستثمارية. وفي الحالات التي يتسم فيها النظام الضريبي والأمور القانونية بالتعقيد إلى جانب وجود قيود على تملك أصول موجودة في البلد (كما هي الحال في كثير من البلاد الإسلامية)، يكون التنازل الجزئي أو البيع بدون تسجيل هو الإمكانية الوحيدة أحياناً لتنفيذ إصدار الأسهم بحقوق ملكية مباشرة بموجب الشرع. ولكن نقل الملكية المباشرة عبر السندات الأذنية، أو الرهنيات، أو أدوات الضمان العقارية لترسيخ عملية التقيد بالأحكام الشرعية قد ينطوي على عدم يقين قانوني إذا كانت المبادئ الشرعية هي التي تحكم العملية شكلاً وتنفي إمكانية إنفاذ مصالح المستثمرين بموجب القانون التجاري إزاء الجهة المنشئة للموجودات المحولة إلى تمويل مهيكل.

الكاتب يعمل في إدارة أسواق المال والنقد في صندوق النقد الدولي والمقال عبارة عن ورقة عمل.

الأكثر قراءة