يسر الشريعة (2)
سبق في قراءة ابتداء في معنى "يسر الشريعة" وأنه قاعدة كلية مستقرة، ونجد في كلمات النبي صلى الله عليه وسلم جمعا لهذا المعنى في مثل قوله فيما أخرجه البخاري: (إن هذا الدين يسر). وفي وصاياه النبوية: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا). ولكن ثمت حقيقة شرعية تفيد أن التحقيق يكون بمعرفة جملة المعنى والفقه فيه، والمقصود أن يُفقه على وفق القواعد والمقاصد الشرعية وأن لا يتحول إلى درجة من الإيهام والتحول بالحكم الشرعي عن وجهه، وربما كان من سبب ذلك الهوى والميل أو كان مثل هذا ينشأ عن نقص في الفقه والإدراك.
ومن هنا لا بد من فقه مقدمات الشريعة وأوائل الحكمة التي إذا لاقت محلاً مناسباً تولدت عنها "ملكة فقهية" يدرك صاحبها مبادئ الأحكام، وتراتيب أئمة التفقه، وحسن التنزيل لأحكام الشريعة، وقد كان يعرف عند أئمة الفقهاء العناية بالمحكم من العلم وأن المتشابه يرد إليه، كما يرد المختلف إلى المؤتلف إلى غير ذلك.
وفي الجملة فمادة فقه يسر الشريعة هي مقام شريف من العلم حتى لا يختلط اليسر بهوى النفس التائهة عن دروب الحكمة، وإن كان من الحقائق أن ثمة فرقا بين هوى النفس وحقائقها، وهذا فيه تفصيل لا يسعه هذا المقام، ولكن يراد هنا الإشارة إلى شرط الفقه في الشرعيات، وأن الخير الخاص يرتبط بهذا الاسم الشريف، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين). ومن وصل إلى هذا رأى الشريعة سعة ويسراً في أصولها وفروعها، في كليات التوحيد والإيمان ومباني الإسلام، وفي مفصل التعبد والسلوك والمعاملات والعقود، فأنت ترى دخول الإسلام بكلمة التوحيد الصادقة، وترى الصلاة والزكاة والصوم والحج متحققة على معنى اليسر، وترى العقود والمعاملات كذلك بعيداً عن التكلف، وليس في الشريعة اختصاصات تخرج الإنسان عن عبوديته لله وحده، بل حقيقة الشريعة تحقيق العبودية لله ورفع الإنسان إلى درجة الكرامة العالية في هذه العبودية التي تضمنت حفظ الحقوق، والله الهادي.