تموز .. أو حرب المتناقضات
بعد مرور عام كامل على العدوان الإسرائيلي، الذي عرف بحرب تموز، حيث كشّر فيه هذا العدو عن أنياب الشرسة ولكن الجبانة، يمكن لنا إلقاء نظرة فاحصة على النتائج السياسية لهذا العدوان لبنانيا وإسرائيليا، فمن المعروف أن النتائج السياسية لأي حرب هي التي تحدد مظاهر النصر والهزيمة الحقيقية كونها تعكس محصلتها النهائية، وبهذا المقياس يمكن لنا القول إن لبنان وبالتحديد حزب الله، الذي كان هدف العدوان العسكري، قد كسب الحرب عسكريا، إلا أنه خسرها سياسيا بما في ذلك حزب الله ذاته، فما أعقب انتهاء العدوان بالهزيمة العسكرية المدوية للعدو الإسرائيلي، التي أهين فيها جيشه الذي لا يقهر، من تفجر تجاذبات سياسية لبنانية أزمت الوضع السياسي اللبناني كما هو عليه اليوم، أفقد النصر العسكري المتميز والنوعي على العدو كل مضامينه السياسية الإيجابية، فاللبنانيون الذين تماسكوا، بالحد الأدنى على الأقل، أثناء العدوان، ربما انبهارا بأداء حزب الله القتالي الذي فاجأ الجميع، انفرط تماسكهم بعد توقف العدوان مباشرة، بل تصاعد حدة يوما بعد يوم حتى وصلت الأزمة اللبنانية إلى ما يشبه الحائط المسدود، وانعكس ذلك جليا في التعاطي مع الذكرى الأولى لـ "حرب تموز"، التي شهدت انقساما لبنانيا واضحا حيالها، وفي هذا حالة سياسية معكوسة، فنتائج الانتصار الذي تحقق في الحرب العسكرية، بدون التوقف عند حد التدمير الذي أصاب لبنان كنتيجة طبيعية لهيجان عدو شرس كالعدو الإسرائيلي وهو يواجه على الأرض بما لم يكن يتوقعه من عجز وخسائر، كان يفرض على اللبنانيين أن يتعاملوا مع خلافاتهم بصورة مختلفة عما جرت عليه، وبما يدعم ذلك الانتصار، وإن كان مؤلما بالثمن الذي دفعه لبنان وهو ثمن أقل بكثير لو كان مقابل إرادته، ولكن رياح الخلافات عصفت بكل أسف بقيمة النصر الذي تحقق، وأدت في بعض جوانبها من قبل بعض أطرافها إلى التقليل منه باعتباره نصرا لحزب الله وحده وليس لكل لبنان، وهذا خالف القاعدة الشهيرة التي تقول إن للنصر ألف أب وللهزيمة أب واحد، وهذا هو الخطأ الفادح الذي وقعت فيه بعض الأطراف اللبنانية حين تركت حزب الله يتباهى بالنصر وهي تقلل منه بما يذكر بنصف الكأس الممتلئ ونصفها الفارغ، فقد كان على الجميع الاحتفال بالنصر لأنهم شاركوا فيه معا بذلك التماسك اللبناني وإن كان وقتها هشا، وعدم ترك حزب الله يحتكره بمفرده.
لقد كان جزء من رهان العدو الإسرائيلي أثناء العدوان هو تفجر الخلافات اللبنانية، عطفا على جذورها الواضحة، وكان جزءا مهما من تحقيق النصر إحجام الأطراف التي على خلاف مع حزب الله عن استغلال ظروف الحرب في توجيه اللوم له على إشعالها، وهذا ما عنيناه بمشاركة جميع اللبنانيين بدور فيه، وكان المأمول من اللبنانيين، ولديهم خبرة سياسية لا يشك فيها، هو استثمار النصر الذي تحقق ليكون نصرا لكل لبنان وليس لحزب الله وحده، ومن ثم بناء وفاق لبناني عليه واتفاق على قاعدة أن النصر شارك فيه الجميع ليكون مدخلا لشراكة لبنانية شاملة في مرحلة ما بعد الحرب، ولكن الذي حدث غير ذلك، فمن شارك فعلا في النصر، وإن كان على مضض، تنصل منه وجيّره لحزب الله دون غيره في إضاعة فرصة كانت سانحة.
على الجانب الإسرائيلي حدث العكس، فالإسرائيليون تماسكوا بعد الهزيمة العسكرية والمعنوية ورتبوا بيتهم الداخلي بأقل الأضرار حين حولوا الهزيمة لخطأ عسكري وليس سياسيا تمثل في إقالات جنرالات حفاظا على الوضع السياسي الذي لا يحتمل هزة قد تؤثر فيهم كثيرا، وأجلت المحاسبة لظروف أكثر ملاءمة وبعيدا عن تجاذبات قد تضر بوضعهم السياسي في مثل هذه الأوضاع التي لم يتعودوا عيلها طوال مرحلة الصراع العربي - الإسرائيلي.
وهنا يحق لنا بعد مرور عام على عدوان حزيران أن نصفها فعلا بحرب المتناقضات، فالمنتصر عسكريا لم يستثمرها الاستثمار الملائم، والمنهزم عسكريا استطاع أن يتجاوز الهزيمة بلا أضرار سياسية إضافية.