الموسم الأمريكي للاستهداف
عادت حملات استهداف منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك" إلى الواجهة مرة أخرى. ففكرة مقاضاة "أوبك" اشتد أوارها في عقد السبعينيات بسبب الصدمة النفطية الأولى وأبرز ملامحها ارتفاع سعر البرميل، وبالتالي سعر جالون الوقود إلى المستهلكين، ثم الحظر النفطي الذي أدخل النفط عالم السياسية بقوة لم تعهد من قبل، لكن خمدت مع تراجع الأسعار خاصة في عقد الثمانينيات والعقد الماضي، بل إن القضايا المرفوعة تساقط بعضها بالإهمال وبعضها فصل فيه على أساس أن المنظمة جهة سيادية لا يمكن مقاضاتها.
العودة الحالية في واقع الأمر جزء من التمرين المصاحب لفصل الربيع كل عام، حيث يتبارى النواب الديمقراطيون والجمهوريون في إشعار ناخبيهم أنهم مهتمون بمصالحهم وعلى رأسها العمل على كبح جماح سعر جالون الوقود المتصاعد وتجاوز مؤخرا ثلاثة دولارات، في الوقت الذي لم يبدأ فيه موسم قيادة السيارات بعد.
الساحة الأمريكية التي تتحرك بفعل اللوبيات المختلفة لا تتوقف لالتقاط الأنفاس والتمعن في أسباب ومسببات ارتفاع سعر جالون الوقود، كما أنها تستسهل إلى حد كبير فكرة إلقاء المسؤولية على الآخرين. فهناك حديث قديم متكرر عن التحقيق مع شركات النفط، التي تحقق الأرباح العالية، وهو ما يلفت أنظار المشرعين فيلجأون إلى اقتراح مسودات القوانين التي تتحدث بصورة غامضة عن التلاعب السعري ودون تحديد دقيق لمعاني الكلمات، وهي في النهاية تحركات موسمية، هذه المرة يتصدر الحملة الديمقراطيون من باب سيطرتهم على مجلسي الشيوخ والنواب، وكان الدور من نصيب الجمهوريين العام الماضي من باب سيطرتهم على المجلسين. ويبدو أن المطلوب إعطاء الإحساس بوجود تحرك ما دون الغوص في أبعاد ذلك التحرك وإذا كان سيؤدي إلى نتيجة أم لا.
ومثلما تتهم الشركات النفطية أنها تتلاعب بالأسعار، وهي تبدو في نهاية الأمر هدفا سهلا لسوء صورتها العامة وارتباطها بالاحتكارات والتلوث البيئي، فإن "أوبك" توفر هدفا ممتازا آخر. فهي تضم مجموعة من الدول صاحبة تراث وتقاليد ليست واضحة أو مفهومة، كما أنها ترتبط بصورة غامضة في الذهن العام بالمتاعب واستهداف الآخرين، وعليه فتحميلها مسؤولية ما يجري من ارتفاع لسعر الوقود للمستهلك يبدو ملائما ويعفي من شغل كثير لجهة السؤال الأساسي المتعلق بنمط الحياة الأمريكية، وأهم من هذا كله الفشل الأمريكي في اتباع خطة رشيدة للطاقة تتجاوز شبكات اللوبيات المختلفة، التي أدت إلى تحميل خطة الرئيس الحالي جورج بوش للطاقة، التي ابتدر العمل فيها في ولايته الأولى وعقب دخوله البيت الأبيض مباشرة، مبلغا يصل إلى نحو 15 مليار دولار في شكل إعفاءات وحوافز ضريبية وخلافها، استمتع بها النواب من ديمقراطيين وجمهوريين ومن هؤلاء زعيم الأقلية الديمقراطية وقتها توم داشيل.
نمط الحياة الأمريكي والاستهلاك المفرط يظل هو المحرك الأساسي للطلب المتنامي وضعا في الاعتبار تأثير الاقتصاد الأمريكي الكبير الحجم على بقية الاقتصادات العالمية. فكل التقارير الصادرة عن حجم الطلب على الطاقة تضع الولايات المتحدة إلى جانب الصين على أساس أنهما محركين رئيسين في الطلب على النفط، إلى جانب الدول النامية التي تعيش مرحلة من الانتعاش الاقتصادي يتطلب المزيد من الطاقة.
يبقى الجانب المتعلق بالمقاضاة. الإدارة الأمريكية هددت أنها ستمارس الفيتو ضد أي قرار من قبل الكونجرس ويستهدف إلغاء حالة الحماية الدبلوماسية، ومن ثم فتح الباب أمام مقاضاة الدول الأعضاء في "أوبك" واتهامها بممارسة العمليات الاحتكارية لتثبيت الأسعار ورفعها على حساب المستهلك.
على أن إدارة بوش متهمة أن لها ارتباطات بالصناعة النفطية، وعليه فهي ليست مؤهلة لحماية مصالح المستهلكين، لكن من الجانب العملي فإن خطوة المقاضاة هذه إذا تمت لن تساعد المستهلكين الأمريكيين على معالجة أوضاعهم الاقتصادية، خاصة تلك المتعلقة بميدان الطاقة. والمفارقة أن سعر جالون الوقود في الولايات المتحدة يقل عما يدفعه المستهلكون الأوربيون بصورة عامة حتى من قبل دول منتجة ومصدرة للنفط مثل بريطانيا والنرويج.
فما دامت الولايات المتحدة تستهلك برميلا من كل أربعة براميل يتم بيعها في السوق النفطية العالمية، فإنها ستظل رهينة لتقلبات السوق وارتفاع الأسعار، كما أن سياستها الداخلية والخارجية يمكن أن تتأثر بهذا الوضع، وهو ما عليها مجابهته، ليس بالحديث الانفعالي والبحث عن كبش فداء، بل والدخول في متاهات الجدل حول الأمن القومي الأمريكي المهدد بزيادة اعتماد الولايات المتحدة على النفط المستورد.
ففي السوق العالمية المترابطة يصبح مصدر الإمدادات لا معنى له ما دام سعر البرميل واحدا من إفريقيا إلى آسيا إلى أوروبا والأمريكتين، بسبب عالمية السوق، كما أن هزه العالمية تجعل من أي حادث يؤثر على سعر البرميل وبالتالي جالون الوقود.
المفارقة أن "أوبك" لم تنجح قط في فرض نفسها "كارتلا" قادرا على ضبط الإنتاج للتأثير على الأسعار وإلا لما أمضت طوال عقد الثمانينيات وهي تسعى بجهدها للوصول إلى سعر 20 دولارا للبرميل ودون نجاح يذكر.