رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


فلسطين .. والحصار

سياسة الحصار والتجويع لم يعرفها المسلمون عبر تاريخهم الطويل، ولم تتلطخ صفحاتهم البيض بهذا الأسلوب السياسي القذر، وإنما كانوا إحدى ضحاياه، منذ بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم، يوم حاصرته قريش مع بني هاشم وبني المطلب في شعب أبي طالب، وقطعوا عنهم الميرة والمواد الغذائية حتى أكلوا الورق والجلود، وكان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع!! ثم ها هو تاريخ الظلم يعيد نفسه، حيث تطل علينا ممارسات العالم (المتحضر) لغة الحصار نفسه، صورة وحكما، فقد مورس الحصار الاقتصادي ضد العراق مدداً طويلة، حتى عانى منه شعبه برجاله ونسائه وأطفاله معاناة سطرها التاريخ بمداد أسود، ونقلت أخباره وآثاره البشعة عبر وسائل الإعلام المختلفة، ثم هاهم إخواننا في غزة يتضورون جوعاً، ويمارس ضدهم الحصار البغيض بأقبح صوره؛ لأنهم انتخبوا بأسلوب ديمقراطي حركة حماس، فكانت هذه العقوبة الجماعية للشعب الفلسطيني الأعزل، بزعامة أمريكا دولة (الديمقراطية وحقوق الإنسان!!)، وابنتها المدللة (إسرائيل)، فما الفرق بين حصار القرن الجاهلي وحصار القرن الحادي والعشرين؟! نعم اختلف الزمن، ولكن تشابهت الوسيلة، واتفقت الغاية، تحت سمع العالم وبصره!!
لقد قامت الدول الغربية بحركة تمرد على أبسط معاني الإنسانية، وعلى تلك الشعارات التي ظلت وما زالت ترفعها، بدءا بالديمقراطية، ومروراً بالحرية، وانتهاء بالعدل والمساواة، فإذا هي كما هي، شعارات تراوح مكانها، ولافتات مجردة من معانيها، حيث سكبت عليها وقود الجور والظلم، وأضرمت فيها النار بحصار الجوع والحرمان!!
ومع هذا كله، فإن الشيء من معدنه لا يستغرب، فلا غرابة أن تمارس الحصار دول أجنبية، لأنهم بداية ليسوا من جلدتنا، ولا يتكلمون بألسنتنا، ولا ينتمون إلى ديننا، وهم في النهاية يفتشون عن مصالحهم الذاتية مهما ضربت بالإنسان وقيمه عرض الحائط، ولكن الغرابة تكمن في موقف الدول العربية والإسلامية الباهت، الذي وقف من الأجنبي موقف المتفرج، وأحياناً موقف المعاون والمساند!! وهو تصرف يحمل المواطن العربي المسلم على الحياء والدهشة في آن واحد!
إن المسلمين في كل أقطار الأرض تشرئب أعناقهم نحو المملكة العربية السعودية، وتتجه أنظارهم شطر الحرمين الشريفين، منتظرين أن يكشف هذا البلد المعطاء بحكومته وشعبه كربة إخوانهم المحاصرين في غزة، ولا غرو، فهي مملكة الإسلام والإنسانية، وهي السباقة دوماً إلى إغاثة كل محتاج. واستمرار المملكة على هذا النهج الإسلامي والإنساني، يحفظ لها مكانتها، وما تنعم به من رغد العيش، وقد ورد في الحديث الذي حسنه الألباني بمجموع طرقه:(إن لله أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع عباده، يقرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، فحولها إلى غيرهم) ويتأكد البذل والعطاء حين يكون لأهلنا المرابطين في فلسطين، أهل الجهاد والتضحية.
إننا نتفهم جيداً ما يحف هذا الموضوع من مخاطر، وما يكتنفه من صعوبات، ولكننا ندرك في الوقت ذاته أن طرق الإحسان كثيرة ومتنوعة، وأن أساليبه لا تقف عند حد.
إن الوقوف مع الإنسان المظلوم، أياً كان دينه ومعتقده، هو أكبر شاهد على النخوة والشهامة العربية، والمروءة الإنسانية، وتبلغ المسؤولية مداها حين يكون هذا الإنسان المظلوم ممن تصلنا به صلة العقيدة، وتربطنا به رابطة الدين، ولا سيما أنه لا يخفى على متابع أن ما حدث في غزة، من انفلات أمني، ومن تمرد على اتفاق مكة، أنه بفعل فئة باغية، حاولت إفشال حكومة حماس، والزج بها في أتون الاقتتال الداخلي، وقد كان لتصرفها الحكيم والشجاع أثره الواضح في استتباب الأمن، وقمع المجرمين، وهنا أسجل إعجابي بما سطره يراع الكاتب الدكتور عبد الرحمن محمد السلطان، الذي قال كلمة حق في جريدة "الاقتصادية"، بتاريخ 17/06/1428هـ، حين قال:" ونجاح حماس في اجتثاث عناصر التخريب في غزة، وتحقيقها الأمن الشامل خلال ساعات فقط يؤكد متانة الدعم الذي تحظى به، وموافقة الشعب الفلسطيني على ما قامت به من إجراء ضد مثيري الفوضى، وهي تستطيع القيام بالعمل نفسه وبالسرعة نفسها في الضفة الغربية، لولا سهولة تدخل إسرائيل في الصراع؛ حماية للعناصر المتواطئة معها، بصورة لم يكن بمقدورها القيام بها في غزة" ثم حذر الكاتب الدول العربية من مد يدها إلى فئة فلسطينية توظف علاقاتها الدولية في مصالحها الشخصية على حساب شعبها، في إشارة إلى بعض المتنفذين في حركة فتح، حيث قال:"وعلى الدول العربية ألا تسمح بخطف القضية الفلسطينية من قبل مجموعة، همها الأول الحفاظ على مصالح فئوية، والتشبث بسلطة شكلية لا تتيح لها إلا حماية مصالحها الشخصية الضيقة، وهي في تشبثها هذا مستعدة لمواجهة شعبها، ورفض اختياراته، والاستقواء بأعدائه عليه، مستغلة تخاذل العرب عن الوقوف في وجه هذا الانحدار المشين، في مواقف من يصروا على أنهم وحدهم من يملك حق تمثيل الشعب الفلسطيني، حتى لو رفضهم شعبهم وأسقطهم في انتخابات حرة نزيهة" ثم قال كلمة في غاية الأهمية:" الدول العربية مطالبة بأن تكون عمقاً استراتيجياً للفلسطينيين، تؤازرهم، وتحميهم، وتقوي موقفهم التفاوضي، لا أن تكون عونا للإسرائيليين عليهم، من خلال المشاركة في محاصرة الشعب الفلسطيني لإركاعه، وإجباره على قبول الإملاءات الإسرائيلية، وأن يصل التردي في الموقف العربي إلى حد تأييد خيار إسرائيل لمن يمثل الفلسطينيين ويتفاوض باسمهم معها، حتى وإن رفضهم الشعب الفلسطيني من خلال خيار ديمقراطي حر!" إنني أسجل إعجابي بهذه الكلمة الرائعة، والمنصفة، التي قلما نسمع مثلها في إعلامنا العربي، لقد رسمت الداء بدقة، ووصفت الدواء بحكمة، بقلم حر، متجرد للحق، يشهد شهادة عدل وصدق على عدل الكاتب وصدقه في تناوله هذه القضية المهمة، والعزيزة على قلب كل مسلم، والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي