صيغ التمويل والمشروعية وكسب التحدي
يمثل سوق التمويل بصيغه المختلفة أحد أهم الأسواق الاقتصادية ومعلوم أنه لا يمكن أن تنشط الاستثمارات وتنمو إلا بوجود سيولة مالية تدعم الشركات بالدخول باستثمارات جديدة أو توسيع النشاطات ونحو ذلك مما لا يخفى, وتكاد تنحصر الصيغة التقليدية للتمويل بتحديد مبلغ التمويل ومن ثم وضع الفائدة وفقا للمقاييس العالمية ودرجات المخاطرة, ومن ثم تقديم ضمانات لسداد المديونية التي غالبا ما تكون من الأصول الثابتة أو المنقولة ـ عقارات, أسهم, سندات ـ وتُرهن في مقابل الاستيفاء للمديونية, ولا يخفى أن هذه الصيغة بهذا الشكل من الصيغ المحرمة شرعا, ولهذا سعت المصرفية الإسلامية إلى إيجاد صيغ بديلة عن هذه الصيغ, وقد وقعت في تحد كبير في هذا الخصوص, فليس الأمر متوقفا على عقود صغيرة أو صيغ بسيطة تحتاج إلى القليل من التعديل, فالأمر يرتبط بعقود كبيرة تتطلب ضمانات كافية, كما تستوجب سلاسة وسرعة في الإجراءات ووضوحها والبعد عن مواطن الطعن والاعتراض, كون هذه العقود تحتاج إلى الكثير من الاطمئنان والاستقرار, الأمر الذي أدى إلى تعقيد الصيغ البديلة وأوجب وجود أكثر من تصرف وعقد تشكل في مجموعها الصيغة النهائية للعقد.
وقد يهدف التمويل إلى توفير سيولة مالية لطالب التمويل لتغطية احتياجاته سواء كان فردا أو شركة, وقد يكون لأجل الحصول على المبيع ذاته كما لو كان عقارا أو سيارة أو نحو ذلك, والصيغة الأخيرة هي المرادة في برنامج المؤسسة العامة للتقاعد "عقد مساكن" المعلن عنه أخيرا, حيث إن العقار مرهون للمؤسسة إلى حين سداد المديونية مما يعني أن الراغب في التمويل يهدف إلى تحصيل المسكن ـ محل التمويل.
أما إن كان طالب التمويل يهدف إلى السيولة فإن الصيغة المشهورة التي يعمل بها الكثير من البنوك والمؤسسات الإسلامية وغيرها, هي صيغة:"التورق المصرفي المنظم", وهي صيغة ناتجة من بناء وتركيب منظومة تعاقدية تستند إلى ما يلي: شراء البنك السلعة بناء على طلب العميل مع اشتراط البنك على البائع شرط خيار ليغطي مخاطرة رفض العميل الشراء – حيازة البنك السلعة وقبضها قبضا حكميا وغالبا ما يبقيها لدى البائع على سبيل الوديعة أو الوكالة - بيع البنك السلعة على العميل بالتقسيط مع أخذ الضمانات ـ توكيل العميل البنك ببيع السلعة إلى طرف ثالث وغالبا ما يوكل البائع الأول ـ ومن ثم إيداع المبلغ في حساب العميل.
وأصل هذه الصيغة يستند إلى مسألة التورق وهي من المسائل المختلف فيها في الفقه الإسلامي, حيث يرى جمهور العلماء جوازها, وخالفهم في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وأفتيا بالكراهية وحكي عنهما التحريم, وهما روايتان عن الإمام أحمد, وهذا من الغرائب حيث إن الكثير من الصيغ الحديثة في البيوع وما يرتبط بها تبنى على أقوال لشيخ الإسلام ابن تيمية, وتعد هذه المسألة من أشهر المسائل التي خالفت بها المصرفية الإسلامية أقوال الشيخ, ويقول بعض الباحثين إن جادة الشيخ واحدة تمنع من الحيل والتحايل، وهذه منها في إشارة إلى أن الصيغة لا تخلو من تحايل على أخذ الربا ـ حسب قوله, ويمكن أن يقال ـ أيضا- كل يؤخذ من قوله ويرد إلا المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ويظهر من هذه الصيغة أنها بديل عن القرض الربوي الذي تقدمه البنوك التقليدية, وبديل عملي مبرمج للتورق الفردي غير المنظم, ومع أن هناك اعتراضات على هذه الصيغة ـ أي: التورق المنظم - من قبل بعض الفقهاء بل والمجامع الفقهية - ممن يرون جواز التورق ويمنعون كونه منظما بهذا الشكل - إلا أنها الصيغة الأشهر في المصرفية الإسلامية التي يصعب تركها, وفي المقالات اللاحقة نشير إلى المزيد من المباحث الفقهية إن شاء الله.