رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


من يحمي المواطن من الدعايات والإعلانات المضللة؟

يلاحظ المراقب المتأمل أن هناك هجمة دعائية وإعلانية شرسة موجهة إلى المجتمع في المملكة بأطيافه وفئاته كافة, تحاول استغلال جوانب الطيبة والعفوية, وأحيانا السذاجة فيه, بخاصة عندما تتلاقى تلك الهجمة مع ما جبل عليه المجتمع من حب للاستهلاك بكل مظاهره وألوانه, كأحد الإفرازات السلبية للطفرة المادية التي شهدتها البلاد خلال العقود الأربعة الماضية, بعد أن كان المجتمع قبلها يعيش عيشة الكفاف والعناء, وهو يتحلى بقيمه المثلى التي ورثها, ومنها العفة, الصبر, الالتزام, والقناعة, إلى جانب غريزة حب الادخار رغم شظف العيش, التي فقدها وفقد غيرها من القيم والسمات أمام الانقلاب المادي الذي شمل كل شيء, والذي لم يكن المجتمع مستعدا أو مهيئا له.
فأينما اتجهت, يمينا أو يسارا, داخليا أو خارجيا, ستلاحظ أن جل اهتمام مؤسسات الدعاية والإعلان موجه إلى الفرد في هذا المجتمع, وأن قضاياه صارت محور الاهتمام والتركيز من قبل معظم وسائل الإعلام, ومنها القنوات الفضائية, التي تدس السم في الدسم, حين تبدي ظاهريا أنها تهتم بشؤون المجتمع السعودي وتعقد الندوات والحلقات وتدبج البرامج الخاصة لطرح قضاياه وبحثها, حتى لو لم يكن المشاركون فيها قد زاروا البلاد أو عرفوا شيئا عن خواص المجتمع فيها, المهم أن تثار القضايا مسبوقة بالحشد الدعائي المعروف الذي يضمن للقنوات تهافت المشاهدين وتزاحم الاتصالات الهاتفية, وما يصاحب ذلك عادة من إعلانات تداعب أحاسيس المشاهد وغرائزه الاستهلاكية, وتجني منها القناة ما كانت تستهدفه من أرباح مادية, بصرف النظر عن النتائج المعنوية.
ومعظم الإعلانات تقوم أساسا على الخداع والتضليل والبعد عن المصداقية, ومحاولة إماتة الأحاسيس الداخلية, وإيقاظ الغرائز ولفت الانتباه إلى استشعار الدعة واللذة والاسترخاء والترف, ونسيان المسؤولية الأسرية والاجتماعية, وتهوين الأمور, فضلا عن محاولة اندثار القيم وطغيان الماديات واللهث وراء القشور من الأمور.
ولم تعد هذه الصفات قاصرة على مجال بعينه, أو جهات ومؤسسات بذاتها, بل صارت هي السمة الغالبة لما يطرح من إعلانات تستهدف في البداية جر رجل المواطن والعميل إلى حيث يراد به, سواء كان ذلك بالحضور شخصيا أو بالاتصال هاتفيا, ومن ثم تتكفل الجهة المعلنة بكل شيء.
تأملوا في الرسائل التي ترد عن طريق الهاتف, وتدعوك إلى الاتصال وإعطاء بياناتك لكي تفوز بمبلغ لا يخطر على بالك, بل وأكثر من ذلك, بعضها يبشرك بأنك فزت فعلا بمبلغ ضخم وتدعوك إلى الاتصال تمهيدا لتسلمه, ومثل هذه الرسائل تتم بمباركة من شركات الهاتف لأنها شريكة فيها, مثلها مثل إعلانات شركات الهاتف ذاتها عن خدماتها, كلها ملغمة ومبطنة, وتفتقر إلى الوضوح والمصداقية والصراحة, وتستهدف السذج من المواطنين, وبالذات النساء والأطفال, ومع ذلك يقع الكل في حبائلها ويشكوا سوء معاملتها, وتردي خدماتها, ويئن من تضخم فواتيرها! وينطبق علينا في هذا المثل السائر "يداك أوكتا وفوك نفخ" فلم نرخص في هذا البلد الضخم بسكانه ومساحته وثرواته إلا لشركتين تتعاونان على امتصاص المواطن, وشريكتهما المقبلة لا تزال فكرة مكبلة بالإجراءات الطويلة! في حين أن الوضع, مقارنة بالدول الأخرى, بحاجة إلى سبع شركات, وليس اثنتين أو ثلاث.
وتأملوا في دعايات شركات مطاعم الوجبات السريعة, التي تصوغها وتصبغها بكل ألوان الخبث والدهاء, إنها لا تنشرها على صفحات الصحف بل توزعها مصاحبة لها, وعلى أبواب البيوت, في مطويات ونشرات مستقلة, بألوان تركز على الإبهار والخداع البعيد عن الواقع, بحيث إنك لو قارنت ما في الصورة بما ستشتريه, مما قصد منها, فلن تجد أي علاقة بينهما, وهي بهذه الطريقة تحقق عدة فوائد, ففيها توفير كبير عن النشر في الصحف, وهي أضمن لدخول البيوت والوصول إلى الفئات المستهدفة من الصغار.
لقد وصل الأمر ببعض الدول إلى الاقتناع بضرر مثل هذه الدعايات وخطرها على صحة الناشئة, فمنعت نشرها وتوزيعها, ونحن أولى بالمحافظة على صحة الأجيال الناشئة, الذين عانى آباؤهم نقص التغذية بينما هم يعانون سوءها وخطرها على صحتهم.
وتأملوا كذلك في دعايات شركات المشروبات الغازية, ضمن تسابق محموم فيما بينها للإضرار بصحة الناس, فرغم ارتفاع الأسعار الملحوظ في كل بنود معيشة المواطن, فلا تزال أسعار الأصناف العديدة من هذه المشروبات, وستظل, على وضعها منذ عشرات السنين دون تغير, بل إنها أصبحت أرخص من الماء الذي تصنع منه, ويصل الإمعان في الهجمة بالشركات إلى تقديمها مجانا لمطاعم الوجبات السريعة, وكل منها يحاول المحافظة على حصته في السوق, وفي تكبيل أذواق الناشئة والأسر على إدمانها التعود عليها, ولا يوجد بلد في العالم توجد فيه هذه الأصناف بذات الوفرة والتنوع والرخص في السعر مثلما هو لدينا.
وتأملوا أيضا في دعايات البنوك, لاجتذاب المواطن لبرامج الإقراض الاستهلاكية المبنية على الخداع والوعود لتوفير المطلوب في ساعات دون شروط, مثل تحويل الراتب أو الكفيل الغارم, وعندما يراجع المواطن لا يجد شيئا من ذلك, وأمام الحاجة يضطر إلى الخضوع إلى شروط البنك غير المعلنة ليخرج مكبلا, وقد أسر البنك مستقبله وحياته.
وحتى شركات الطيران التي يفترض أن تحترم نفسها وتحمي سمعتها, وتعمل ضمن الأطر القانونية للمنظمات الدولية التي تنتمي إليها, لا تنأى بنفسها عن الخداع ومحاولة ابتزاز الراكب, واستغلال حاجته إليها, عندما تعلن أسعارا متدنية وتقرنها بعبارتها الشهيرة (ابتداء من), وعندما يذهب الراكب إليها يقال له إن ذلك السعر كان لمقاعد محدودة انتهت, ولم يعد متوافرا إلا مقاعد بأضعاف السعر المعلن.
وأخيرا, تأملوا في دعايات شركات السيارات التي تتميز على غيرها بالإمعان في الخداع ومحاولة استغلال حاجة المواطن إلى وسيلة النقل في بلد يفتقر إلى وسائل النقل العام المنتظمة, حين يقول بعضها (ادفع ريالا واحدا وامتلك سيارة), دون أن يصحب ذلك أي توضيح بأنه دفعة أولى, وذلك في محاولة واضحة للعب والتدليس والعبث بأفهام الناس, بعيدا عن أخلاقيات البيع والشراء المباحة.
ولو كنا في بلد آخر, مثل البلدان الغربية, لالتزم كل من ينشر دعاية من هذا القبيل, تحت سلطة القوانين بالإذعان لها, أو لما تجرأ بنشرها, حتى حين يقع الخطأ في السعر المعلن ويظهر بالنقص فإنه يلتزم بما ظهر في إعلانه, بيد أننا في بلد يعد فيه المواطن المستهلك الحلقة الأضعف في منظومة العمل التجاري, ولا يجد من يقف معه إن هو أراد المطالبة بحقه.
قصدت طرح هذا الموضوع وإثارته بمناسبة ما أعلن الإثنين الماضي عن قيام مجلس الوزراء بإصدار قرار بإنشاء وحدة رئيسة في وزارة التجارة والصناعة بمستوى وكالة تسمى وكالة الوزارة لشؤون المستهلك, تجمع فيها نشاطات خدمة المستهلك التي تتولاها الإدارات المعنية بذلك في الوزارة, وكذا إنشاء جمعية وطنية تسمى جمعية حماية المستهلك تعنى بشؤون المستهلك ورعاية مصالحه, والدفاع عنها, وتبني قضاياه لدى الجهات العامة والخاصة ومساندة جهود الجهات الرسمية.
وأشير إلى أن هذا القرار, وإن كان قد جاء متأخرا عن وقته, فإنه يعد من أهم الإنجازات التي تحسب للجنة الوزارية للتنظيم الإداري, ويعلق عليه المواطن المستهلك أملا كبيرا في المبادرة إلى وضعه موضع التنفيذ.
والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي