«وإذا قلتم فاعدلوا»

«وإذا قلتم فاعدلوا»

الناظر في نصوص الشريعة يرى أن من أخص المقامات التي قصد الشارع إلى الحث عليها والالتزام بها مقام العدل، ولذا تقرأ في التنزيل قول الله: ?إن الله يأمر بالعدل والإحسان?. وقوله: ?يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط?. وقوله: ?وإذا قلتم فاعدلوا?. والعدل كمفهوم عام يشمل كل مناحي الحياة الاجتماعية والعملية والعلمية.
والمتأمل في النفس البشرية يرى أن النفوس لا تخلو من محركات إلى العدل أو الظلم، فتارة يكون في النفس قوة عدلية تزين لها العدل والإنصاف، وتارة يكون فيها نزعة غضبية تزين لها الجور والإجحاف، قال تعالى: ?وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد?. ومن ثمَّ ترى النفس البشرية تتردد بين غلبة قوة العدل فيتحصل عن ذلك مقام فاضل من الإنصاف والقسط، وحينا آخر يغلب عليها النزعة الغضبية فيحصل لها عن ذلك مجانبة للحق وغلبة لمقام الظلم والزيادة في القول والفعل بغير حق.
ومن أخص مقامات العدل التي يقصد إليها مقام العدل مع المخالف، فإن من البديهي وجود الخلاف بين أفراد الأمة، لا سيما مع تعدد قنوات المعرفة والإدراك، وإن من قلة العلم والفقه القصد إلى مقام الطعن فيما هو من الخلاف الاجتهادي السائغ؛ فإن صاحب الشريعة يقول: كما في الصحيح من حديث عمرو بن العاص: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر).
وهذا النص النبوي هو من أخص قواعد العدل في الحكم على المجتهدين، وفيه واقعية في النظر إلى بشرية المجتهدين، وأن الحراك العلمي والدعوي لا بد أن يقع عنه الخطأ والصواب، اللذان هما في كثير من الأحيان فرع عن كوامن النفس البشرية، وطغيان أحد محركاتها على الأخرى، ومن المعلوم أن مقام الحق المطلق إنما يكون لأنبياء الله ورسله، فكان مثل هذا النص النبوي مما يكبح بعض النفوس الموغلة في طلب أو ادعاء صور من الكمالات إما لنفسها وإما لغيرها.
والناظر في فقه السلف وأئمة العلماء المتقدمين وتعاملهم مع الخلاف يرى صورا مشرقة من حفظ مقام الود والإخاء مع ما يحصل من الخلاف الاجتهادي، ومن مثالات ذلك أن محمد بن داود الظاهري كان خصما لابن سريج وكثيرا ما كان يناظره، ويترادان في الكتب، فلما بلغ ابن سريج موت محمد بن داود، حزن له، ونحى مخاده، وجلس للتعزية، وقال: ما آسى إلا على تراب يأكل لسان محمد بن داود.
فمثل هذه المقامات من صفاء النفس، وحسن النية، وقصد إرادة الحق هي التي قصد الشارع إلى نشرها وإرسائها بين أفراد هذه الأمة، والله الهادي.

الأكثر قراءة