"المعاش" ومعدلات التضخم

قد يكون العامان 2006م و2007م من الأعوام التي سوف تبقى في ذاكرتنا لسنوات طويلة، وربما يتم توثيق ما حدث فيهما من قصص وحكايات كما وثقت سنة 1967م كسنة للنكسة أو النكبة العربية، ويصبح لدينا سنة نكبة الأسهم السعودية، وسنة تضخم أسعار الخيار والطماطم على غرار سنة غزوة مانهاتن كما تسميها القاعدة، وسنة الدولار الضعيف أمام العملات الأخرى القوية على غرار سنة غزو العراق ... وغيرها كثير. بطبيعة الحال التجارب التي تمر بها الشعوب لها وجهها الإيجابي مهما كان طعمها مراً ومهما كانت قاسية في بعض الأحيان وبالذات عندما تكون نتيجة أخطاء مشتركة من الجميع وعلى الجميع. يبدو، والله أعلم، أننا منذ 11 أيلول (سبتمبر) ومع دخول القرن الحادي والعشرين ونحن نُختبر في كل فترة بتجربة جديدة مهمة ومثيرة تجعل الفكر يعجز عن فهم مسبباتها فهل نحن "سذج" إلى هذه الدرجة بحيث يسهل وقوعنا في الأخطار والأخطاء مرات ومرات وبشكل متتابع دون بوادر تعلم من تلك الدروس. ربما يكون ذلك بعد مرور عقود بعدما يشتد عودنا ونصبح ممن يتحمل الصحراء، كما في سابق عهودنا بعد أن نَعم هذا العود لعقود، ولكن بشكل جديد "نيو لووك".
وفي سياق الحديث عن التضخم علينا أن نكون عادلين مع أنفسنا ومع المسؤولين في هذا الشأن، أولا، لأن قضية التضخم هي قضية لا تخصنا وحدنا، وبالتالي يجب ألا ندعي كما في كل مرة الخصوصية والانفراد، فهي قضية عالمية ويشتكي منها هذه الأيام البريطاني والأوروبي بشكل عام أكثر مما نشتكى منها نحن بمعدلات، حيث لا تزال الأمور تحت السيطرة لدينا، ولولا قضية تصحيح سوق الأسهم (انهيار عند البعض) والممتدة منذ 25 شباط (فبراير) 2006م وحتى اليوم، لما شعر به أحد أو تحدث عنه إعلام بمثل تلك الحدة وذلك الضجيج.
اختلف الجميع على وجود التضخم أو عدم وجوده بالدرجة الأولى وهذا بحد ذاته خلل واضح، فأمر التضخم يناقش بالأرقام وليس بالجدل هذا أولاً. كما اختلفوا على نسبة هذا الوجود وهل هو في حدود المعقول أو خارج السيطرة؟ وهذا خلل ثان! وهل هو مستورد أم محلي، أم هل هو بسبب ربط الريال القوي بالدولار المريض أو المتمارض "يدعي المرض"، وهذا خلل ثلث. وهو الأمر الذي أدى بالمواطن المسكين - إلى أن يتفق "فقهاء المال والأعمال" في هذا الموضوع - إلى دفع الثمن من جيبه الخاص وكأن مشكلة سوق المال - التي هي جزء من المشكلة وليست مستقلة بحد ذاتها كما يُعتقد - لا تكفيه هماً وغماً. ورغم أن "اختلاف أمتي رحمة" إلا أن الأمور الاقتصادية التي تصب مباشرة في معاش المواطن هي من الأمور التي يجب أن تحسم بشكل واضح وسريع وصريح ولا تَدخٌل في أجندة الحوار الوطني أو أي حوار آخر أو في جدلية الصح والخطأ والإنكار والاعتراف. الجميع يعلم أن جميع الأنظمة والتشريعات وجدت لخدمة الإنسان وليس العكس. وإذا لم تقم بما يجب فلا داعي لوجودها ولا لوجود الجهاز نفسه المعني بهذا التشريع أو التنظيم. وهذا هو سر التنظيم البشري وسر بناء المجتمعات التي أصبحت تتجه شيئا فشيئا إلى الأنظمة المؤسساتية والاستثمار في رؤوس المال البشرية والاجتماعية أكثر من تلك المادية (حسب إحصائيات البنك الدولي فإن رأس المال البشري أصبح يفوق رأس المال الطبيعي والأصول المنتجة مجتمعة وأصبح يشكل نسبة 67 في المائة من الثروة الوطنية فيما عدا الدول المصدرة للمواد الخام مثل دول الخليج، لا تزال في حدود 36 في المائة والباقي أسمنت وحديد فقط، وتحتاج دول الخليج إلى جهود جبارة في سياق رفع كفاءة ودور رأس المال البشري الذي هو الكفيل بنهضة الأمم وليس رأس المال المادي الذي إن وجد البشري منه على وجه التحديد استطاع جلب المادي من خلال الإبداع والإنتاج ولدينا اليابان دون موارد طبيعية ولدينا سنغافورة وغيرهما من الدول، فما بالك عندما يتوافر البشري والمادي، ولكن هذا مبحث آخر).
وبغض النظر عن حجم هذا التضخم أو مسبباته، فالمشكلة في ظني الشخصي لها مسببات هيكلية تفوق قدرة السياسات المالية والنقدية للجهات المسؤولة عنها على التعاطي معها حسب الأدوات المتوافرة لديها، حيث إن كلتا السياستين (النقدية والمالية) محدودتان بعوامل هيكلية للشأن الاقتصادي كاملاً وتعملان وفق هذا الإطار، وبالتالي ليس بالإمكان أحسن مما كان كما يقال. وأنا هنا لا أقلل من مسؤولية تلك الجهات، بل أحاول إيضاح محدودية الأدوات التي تساعد على التحرك الإيجابي بشكل متناغم منذ البداية وقبل وقوع الحدث.
لكن المشكلة أننا نتحدث عن شأن يمس حياتنا جميعا وهو "المعاش" ومن اسمه يفهم معناه ومبتغاه فهو في النهاية يفترض أنه يكفي لأن يعيش الإنسان بهذا "المعاش" حياة كريمة وذات بعد إنساني غير قائمة على الهبة والصدقة والتفضل وإنما من خلال آلية لتبادل للمنافع، حيث يعمل المواطن من خلال عقد اجتماعي سواء في القطاع العام أو الخاص ويحصل بموجبه على جزء من الثروة العامة بحسب جهده ومساهمته في الناتج الوطني، ومن خلال العطاء والعمل مقابل الحصول على القيمة العادلة حسب العرف الاجتماعي السائد لهذا المقابل العادل. نحن متفقون على الاسم وهو "المعاش" ولكن أعتقد أننا بحاجة إلى إعادة النظر سريعا في القيمة العادلة في حدودها الدنيا والعمل على خلق ديناميكية واضحة للتفاعل مع الحقائق على أرض الواقع التي منها عنصر التضخم الذي هو جزء من كل. وبحكم مرونة القطاع الخاص فقد ارتفعت الأجور في بعض الحقول بنسبة تفوق 200 في المائة وفي المتوسط ما بين 30 في المائة إلى 50 في المائة، فيما القطاع العام لم ينم إلا بنسبة 15 في المائة رغم أنه يوجد أكثر من 1.6 مليون موظف قطاع عام مدني وعسكري، وهم الشريحة العريضة من نسبة العاملين المواطنين في المملكة. وهو الأمر الذي يعني أن أكثر من مليون عائلة تعتمد على هذه المستويات من الدخل. وقد أفاق الغرب منذ عام 1928م على حقيقة أن "معادلة العرض والطلب" التي تغنى بها بشعة إذا لم تكن وفق ضوابط، فيما بعض اقتصاديينا لا يزال يؤمن بها رغم أن البعض هم خريجو جامعات هذا الغرب. لنفكر جميعاً بالأمر ونعمل سوياً على المحافظة على الطبقة الرئيسة المشغلة للدورة الاقتصادية محلياً قبل أن يدهسها الجانب السيئ من الرأسمالية!!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي