نحو إعادة الثقة للسوق السعودية
من الحقائق المتداولة في مجال الاستثمار في الأسواق العالمية أن "لا أحد يستطيع أن يهزم السوق المالية"، وإن استطاع فسيتعلم منه الآخرون وينهجون طريقته نفسها، ومن ثم لا يستطيع أن يهزم حركة السوق بتحقيق الأرباح على الدوام إن لم يغير نهجه الاستثماري أو أن يجعل قراراته السابقة لتحركات السوق المالية مختلفة عن القرارات اللاحقة. مازلت أذكر وقت فقاعة أسهم الإنترنت الأمريكية في بداية الألفية والحديث عن الاقتصاد الجديد حين كان الكثير من المتداولين في السوق الأمريكية يبحث عن شركات التكنولوجيا (الدوت كوم) كونها الشركات الواعدة للاستثمار دون تحليل أساسياتها أو توجهاتها الاستثمارية، وقد كان المجادلون يتحصنون بنظريات الاقتصاد الجديد المبني على نمو التقنية التي تحافظ على المؤشرات الكلية الاقتصادية والنتائج المالية للشركات ضمن النطاق الذي يسمح لها بالنمو بمراحل، أي رفع معدل مخرجات العملية الإنتاجية دون تغيير في المدخلات ولكن بالاعتماد على التطور التقني. بصراحة، لهذه الفكرة مكان ولكن ليس بالتوقعات المتجاوزة لحدود المعقول من تقييمات لأسهم الشركات والتوصية بها، خصوصاً مع تفاوت الشركات المستفيدة من نظريات الاقتصاد الجديد وتباين نماذج أعمالها.
وبانتشار نظريات الاقتصاد الجديد والإنترنت نفسها، كان لارتفاع أسعار النفط الخام في السنوات الأربع الماضية الأثر نفسه على أسواق الأسهم الخليجية، وخصوصاً السعودية. فكما كانت توقعات عموم المستثمرين في الأسواق الأمريكية مطلع الألفية بأن التقنية ستأخذ الاقتصاد مروراً بشركات السوق المالية إلى أعلى مستويات، كان الإجماع السوقي في السوق السعودية ـ مع اختلاف هيكل السوق السعودية ومستثمريها عن نظيراتها العالمية - يثق بالتحليل القائل بأن ارتفاع أسعار النفط سيأخذ المؤشر إلى مستويات تحطم سابقتها إلى الأبد!
بالنظر إلى التحليل الذي يربط بين ارتفاع أسعار النفط وأداء السوق المالية، ليس هناك شك بأن لارتفاع أسعار النفط كبير الأثر في مؤشرات الأسواق المالية للدول التي تعتمد على النفط كرافد أساسي للاقتصاد، إلا أن تأثير عوائد النفط في الشركات المدرجة في السوق المالية يمر عبر القنوات الاقتصادية التي تمرر النمو الاقتصادي الناجم عن ارتفاع أسعار النفط إلى كل قطاع تبعاً لدرجة الارتباط والمدى الزمني لوصول تأثير ارتفاع أسعار النفط، أي أن ارتفاع العوائد الوطنية من ارتفاع أسعار النفط وتمريرها إلى مختلف الوحدات الاقتصادية بما فيها الشركات المساهمة المدرجة ليس لحظياً، وليس متزامناً أيضاً، فقطاع البتروكيماويات قد يكون المستفيد الأول، وقد يكون المستفيد الثاني القطاع البنكي نظراً لتوفير الائتمان وخصم السندات الحكومية للقطاع الخاص، ومن ثم قطاع الإنشاءات، إلخ.
ومن هنا فالاستثمار في الأسهم يجب أن يكون مبنياً على توقعات النمو الاقتصادي الكلي وتأثيراته في مختلف القطاعات ومختلف الشركات ومدى سرعة وصول هذه الإيرادات الوطنية إلى الاقتصاد الجزئي وعلى وجه الخصوص الشركات المستهدفة بالاستثمار. ولكن، هناك سؤال، هل سوق الأسهم مؤهلة لاستقبال زخم النمو الاقتصادي والتحركات المتتالية في هيكلها كإدراج شركات جديدة في السوق؟ إن إجابة منطقية لتساؤل كهذا يجب أن تأخذ في الحسبان نوع الشركات المساهمة المطروحة والقطاعات التي ستسهم فيها، إلى جانب أدائها بعد التمحيص في مساهمتها في الاقتصاد الكلي ومدى توفيرها للتنوع والعمق للسوق ككل. إن نظرة كلية إلى أداء السوق المالية توضح التذبذب الحاصل نتيجة المضاربات، بجانب فقدان نوع من الثقة في سوق الأسهم في العموم من قبل صغار المستثمرين كما حدث في اكتتاب شركة كيان والتي كانت فرصة استثمارية ممتازة نظراً للميزة التنافسية للملكة في قطاع البتروكيماويات.
إن الاعتراض على طرح المزيد من الاكتتابات في الفترة الحالية بحجة امتصاصها للسيولة وضغطها على مستويات المؤشر ليس في مصلحة مستقبل السوق ككل. فقرار الموافقة على طرح المزيد من الاكتتابات يصدر من هيئة سوق المال المسؤولة عن تنظيم السوق ومراقبتها. وعند اتخاذ أي قرار تنظيمي من قبل الهيئة، لا بد أن يكون قد خضع لتحليل الفوائد والتكاليف المتأتية منه للسوق السعودية عموماً. ولا أعتقد أن رفع المؤشر لمستويات أعلى هي من الفوائد المستهدفة لأنها ليست من اختصاص هيئة السوق المالية، بل هي خاضعة أولاً وأخيراً لقوى العرض والطلب في السوق. وقد تشمل الفوائد توفير سوق تتمتع بالعمق، السيولة، والخيارات المتعددة للمستثمر لإثراء محفظته الاستثمارية التي تشمل عوائدها الأرباح الموزعة، الأرباح الرأسمالية وتقليل المخاطرة. لذا من المهم التركيز على أن عوائد الاستثمار في السوق ليس مصدرها الوحيد الأرباح الرأسمالية التي ترتفع بارتفاع مستويات المؤشر، بل إن الأرباح الموزعة التي لا ترتبط بمستويات المؤشر وتتعلق بأداء الشركات واستراتيجياتها يجب أن تؤخذ في الحسبان.
ويكمن التحدي الأكبر للهيئة في إعادة الثقة إلى السوق، رفع الكفاءة، تحقيق المساواة في التداول، وحماية صغار المساهمين الذين خاضوا تجربة قاسية في الفترة الماضية. ولتحديد كيفية إعادة الثقة، من الضروري معرفة مكوناتها والمتغيرات التي تؤثر فيها، كالتشدد في الرقابة، معاقبة المخالفين، وضوح استراتيجية الهيئة وتوجهاتها التي قد تشمل رفع مستويات السيولة والتنوع، وغير ذلك من محددات الثقة التي يجب أن تبنى على دراسة علمية. وقد يكون فتح المجال للاستثمار الأجنبي المباشر في سوق المال أحد العوامل التي تؤثر في ثقة المستثمر المحلي حين يجد ارتفاع ثقة المستثمر الأجنبي المحترف بالسوق السعودية.
وأخيراً، بطبيعة حال أسواق المال، لا يتم العلاج والتطوير بين ليلة وضحاها وغالباً ما تقدم الأهداف الاستراتيجية وبعيدة المدى على الأهداف المؤقتة والتي قد تضر بعمل السوق ورسالتها على المدى البعيد. لذا يجب طرح استراتيجية الإشراف والأهداف المنشودة من وراء مختلف السياسات المتبعة في الإعلام لتوفير المزيد من الشفافية ولكي تتضح الصورة لعموم المستثمرين.