رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


مقاضاة أوبك أم مقاضاة أمريكا؟!

[email protected]

موافقة مجلس الشيوخ الأمريكي الأسبوع الماضي على مشروع قرار يجيز للحكومة الأمريكية مقاضاة منظمة أوبك بحجة تسببها في ارتفاع أسعار النفط على المستهلك الأمريكي من خلال سياسات الحد من الإنتاج التي تتبعها المنظمة، تظهر قدرا هائلا من الجهل بتاريخ السوق النفطية، فـ "أوبك" لا تعدو كونها وريث نظام وضعه منتجو النفط الأمريكيون أنفسهم منذ بدء الإنتاج التجاري للنفط في الولايات المتحدة في أواسط القرن التاسع عشر، الذي استهدف تحقيق استقرار السوق النفطية من خلال تجنب حدوث فائض كبير في المعروض النفطي يؤدي إلى تدهور الأسعار. فقد اتصفت أسعار النفط الخام منذ البدايات الأولى لإنتاج النفط في الولايات المتحدة بالتذبذب العنيف، فسعر برميل النفط الخام بعد عام من اكتشافه، أي في عام 1860، كان يبلغ 20 دولاراً للبرميل، إلا أنه هبط في العام التالي مباشرة إلى عشرة سنتات فقط.
لذا فقد أدرك منتجو النفط الأوائل في الولايات المتحدة وجود حاجة ماسة للتحكم في الكمية المعروضة من النفط لتجنب حدوث تذبذبات حادة في السوق النفطية، وفي البداية قامت هيئة سكة الحديد في ولاية تكساس بجهود للحد من فائض الإنتاج، تلاها لاحقا سيطرة عائلة راكافيلر على معظم مصافي النفط الأمريكية من خلال شركة ستاندارد أويل لفترة طويلة جدا، ما مكنها من التحكم في حجم المعروض النفطي، وبالتالي حفظ استقرار أسعار النفط الخام. وبعد الحرب العالمية الأولى، وكنتيجة للاكتشافات النفطية في العديد من دول العالم وتحول صناعة النفط من صناعة مركزة في الولايات المتحدة فقط إلى صناعة عالمية، وجدت شركات النفط الكبرى أو ما كانت تعرف بالأخوات السبع، ومعظمها بالمناسبة شركات أمريكية، أنها بحاجة للتعاون فيما بينها لتجنب تدهور أسعار النفط الخام، لذا فقد وقعت ثلاث منها على اتفاقية سرية في عام 1928، ووافقت الشركات الأخرى لاحقا على الالتزام بها، تهدف إلى الحد من المنافسة فيما بينها والتحكم في كمية النفط المعروضة في السوق، واتفقت على ألا يقل سعر برميل النفط في أي مكان في العالم عن سعر برميل النفط المستخرج من ولايات خليج المكسيك الأمريكية. واستمرت سيطرة هذه الشركات على السوق النفطية منذ ذلك الحين وحتى بعد إنشاء منظمة أوبك في عام 1960، ولم تنجح دول "أوبك" في الحد من سيطرة تلك الشركات على السوق النفطية إلا في أوائل سبعينيات القرن الماضي، حين انتقلت إليها وللمرة الأولى مسؤولية التحكم في المعروض النفطي، وأصبح منوط بها بالتالي مسؤولية المحافظة على استقرار سوق النفط العالمية.
من هذا يتضح أن "أوبك" لم تكن محاولة للسيطرة أو فرض احتكار القلة على سوق تنافسية حرة، وإنما كانت مجرد تحول في النفوذ من شركات النفط العالمية إلى الدول المصدرة للنفط نفسها. وهذه السوق طوال تاريخها لم تكن يوما ما سوقا تنافسية حرة، بل إنها في الفترات التي تغيب فيها السيطرة عليها تمر بتقلبات عنيفة في الأسعار تضر بكل المتعاملين في السوق، كما حدث عندما تخلت "أوبك" عن محاولتها حماية الأسعار من الهبوط في عام 1985، ما أدى إلى تدهور أسعار النفط الخام بشكل حاد ألحق بالغ الضرر بالصناعة النفطية في أنحاء كثيرة في العالم. وعلى أية حال، وحتى لو افترضنا أن لـ "أوبك" دورا في ارتفاع أسعار النفط الخام خلال العقود الثلاثة الماضية، فإن هذا الدور تراجع حاليا بشكل كبير وقد يكون حتى تلاشى تماما. فالارتفاع الذي شهدته أسعار النفط الخام خلال السنوات الثلاث الماضية لم يكن ناتجا عن قرارات إنتاجية اتخذتها المنظمة، وإنما عائد بشكل أساسي إلى ارتفاع كبير في الطلب على النفط، فاجأ حتى دول المنظمة نفسها، وتوقع تفاقم حدة هذه المشكلة خلال السنوات المقبلة، بسبب استمرار النمو الكبير في الطلب على النفط عالميا، زاد من حدة ارتفاع أسعار النفط وجعل كل التوقعات تشير إلى مواصلة الأسعار ارتفاعها بغض النظر عن أي قرارات إنتاجية تتخذها المنظمة. ولا أدل على هامشية الدور الذي تلعبه "أوبك" في السوق النفطية حاليا من كون كل دول المنظمة عدا السعودية تنتج عند أو قرب طاقتها الإنتاجية القصوى، وأن عددا من دول المنظمة تجد صعوبة حتى في الوصول بإنتاجها إلى الحصة المقررة لها وفق قرارات "أوبك".
بالتالي فإن هناك تضخيما ومبالغة كبيرة في الدور الذي تلعبه "أوبك" في الارتفاع الحالي لأسعار النفط الخام، وهي لا تستطيع في الواقع الحد من هذا الارتفاع حتى لو أرادت ذلك، وكل ما سيترتب على أي تراجع حالي في الأسعار هو تسارع معدلات النمو في الطلب ومفاقمة مشكلة ارتفاع أسعار النفط مستقبلا. ما يعني أن الكونجرس الأمريكي اختار الوقت غير المناسب على الإطلاق لتحميل "أوبك" مسؤولية ارتفاع أسعار النفط أو مقاضاتها بحجة قيامها بممارسات كان الأمريكيون أنفسهم هم أول مَن ابتدعها وطبقها لضمان استقرار أسعار النفط. وكل ما سيترتب على هذا القرار، إن تمت الموافقة عليه، من قِبل الرئيس الأمريكي وقررت الحكومة الأمريكية تفعيله، هو سحب استثمارات أعضاء "أوبك" من الولايات المتحدة، التي أسهم وجودها في الحد من التأثير السلبي للعجز المستمر في الميزان التجاري الأمريكي وعجز الميزانية الفيدرالية على الاقتصاد الأمريكي، خاصة تأثير ذلك في سعر صرف الدولار ومعدلات الفائدة الأمريكية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي