سيتم تمكين الفقراء إذا تجاوزنا فقر التمكين (2/2)
استطرادا لما سبق فأبدأ بما قامت به اللجنة المكلفة من قبل البنك الدولي بدراسة حالات الفقر بمقابلة عينة عشوائية قدرت بـ 60 ألف شخص من البالغين من الجنسين واتضح أن الفقر لديهم ليس في نقص المال أو النفوذ وإنما في سماع وجهات النظر, والاعتراف بحقوقهم كبشر. فكيف يمكن وضع برامج لا تغفل محاور مثل هذه؟
لا شك أن من أسس التمكين ضمان مواصلة التعليم للشباب والشابات, وتأمين السكن. من ناحية التعليم فلا بد أن يقدم في قوالب أهمها كيفية التعلم وإتاحة الخيار في أسلوب الاندماج في المجتمع كأمر ضروري. ولكن هذا يحتم بالطبع التركيز على مراقبة ماهية وحدود الثقافة الوافدة. نحن نحتاج إلى توضيح أن كل ما يقود للفقر هو تعطيل الفكر والاستسلام لمسببات القهر, وبالتالي فبالتمكين يمكن ترويض النفس على الإعاشة وتعويدها على تبني مبدأ الأخذ عند الاحتياج مع الإصرار على التمكن والإنتاج, وبالتالي يهمنا الابتعاد عن المغالاة, والتأثر بالمؤثرات الخارجية عنفوانية الصبغة, والقناعة بالقدرة على مواجهة الظروف القاسية بالإيمان والفكر المنظم. أما من ناحية السكن فلا بد أن نركز على استمرار تأمين الوحدات السكنية للمعدمين والفقراء, أما الفرد العامل أو القادر فيجب ألا يدفع أكثر من 15 - 20 في المائة من مرتبه عليه. إن ما يرصد الآن ولم يحدد بدقة بعد هو أن الفرد يدفع من 40 – 70 في المائة من مرتبه على السكن, هذا إضافة الى ما يدور حاليا في المجتمع من تحمل فاتورة الصرف الصحي, وتأمين اللقاحات الأساسية عبر القطاع الخاص, ما يستدعي التدخل من القطاعات الثلاثة العام والخاص والخيري لإنهاء هذه الظاهرة وفي غضون السنتين المقبلتين, وإلا فإن الوضع ينذر بايجاد شريحة فقيرة جديدة قد لا نستطيع معها حلا إذا ما تغيرت الظروف الاقتصادية أو ارتفعت تكاليف المعيشة.
في الإسلام تمكين المرأة يجعلها تهزم الفقر لأنها بالفطرة تسعى للحفاظ على قوام الأسرة وبقائها بما يوفر لها الحماية, وهذا بالطبع يعود لتكوينها الفطري. ولنا في جهود بنك جرامين مثلاً, فهو يقدم قروضا لأكثر من ستة ملايين مقترض أكثرهم (95 في المائة) منهم نساء, على الرغم من أنه تأسس قبل أقل من عشر سنوات فقط. لقد درس البنك المشكلات الأساسية بتفاصيلها, واستمع لشكواهم لفترة طويلة ثم قام بتوفير المعلومات الأساسية (للنساء فقط) للقيام بنشاط مستقل والخروج من الفاقة للإنتاج, وبعد ستة أعوام من الصبر حققت النساء أهدافهن لأسرهن واستطعن الإيفاء بسداد الدين للبنك بعد التمكين بأسلوب مرن جدا. أيضاً برنامج أغاخان لدعم الأرياف في الباكستان AKRSP الذي أسس عام 1983م, حصر الأفراد من النساء والأطفال وكبار السن ممن يقل دخلهم عن نصف دولار في اليوم، وسجل نجاحات كبيرة، رصدت في أكبر التقارير الدولية بدعمهم النساء وإقراضهم والتركيز على تحويل الأسرة إلى منتجة بدلا من مستهلكة. من منطلق أن المرأة والأطفال هم من أضعف الفئات في كل مجتمع, فهل لو مكناهم بإيجاد نظام عقوبات لمرتكبي العنف ضدهم سنضع حدا لتشريد الأطفال وخروجهم بحثا عن المال؟ أعتقد أن الدعوة الأخيرة إلى دراسة إنشاء هيئة وطنية لحماية المرأة والطفل من الإيذاء, إذا ما تحققت, فستكون إحدى وسائل التمكين التي ستسهم في توفير السكن وتسهم في تأمين الوضع الصحي, وستخفف وطأة الخوف إذا ما خرجوا للحياة العامة بكل قسوتها, لأن فيها رفعا للمستويين الثقافي والتعليمي للمرأة اللذين سيحولانها من نقطة ضعف إلى نقطة قوة تساعدها في التغلب على تقلبات الظروف الاجتماعية.
هذا يجعلني أتأمل انشغال وزارة الشؤون الاجتماعية مع الجمعيات الخيرية والجمعية الوطنية لحقوق الإنسان خلال الأعوام الثلاثة المقبلة في حصر أعداد المستحقين على مستوى المملكة (مواطنين ووافدين للعمل) وإنشاء قواعد بيانات ووضع نظام لحمايتهم لتخفيف الوطأة عنهم. كما أن هناك فئات مثل ذوي الاحتياجات الخاصة, والمطلق سراحهم من السجناء في حاجة إلى تمكين ليتعاملوا مع المجتمع دون أن يؤثر ذلك فيهم نفسيا. فالفئة الأولى في حاجة ماسة إلى أخصائيين متمكنين من عملهم لتأهيلهم صحيا، كما هو اجتماعيا ليتمكنوا من العيش في هدوء وراحة ويحظوا بحقوقهم كاملة. أما الثانية فتتطلب أخصائيين متمكنين في القدرة على تخطيهم آثار الحرمان العاطفي والاجتماعي وقسوة الظروف الاقتصادية, والتعامل مع صدمة الإفراج والنظرة الدونية للمجتمع لتتوفر لهم فرص عمل ويبدأوا حياة كريمة.
لذلك ليتنا نستلهم الفكر فنضع تنظيمات تحمي أجيالنا لعقود مقبلة, فما يبدو فكرة اليوم قد يغدو حلا ونظاما غدا, فقبل تمكين الفقراء والمحتاجين هناك حاجة إلى تمكين العاملين بالبرنامج بأسلوب علمي ومنهجي واحتراف مهني, سواء بتطوير أحد أقسام الكليات الاجتماعية لتناول هذا المجال وتطوير آليات العمل فيه وإعداد الكوادر لتنفيذ الخطط التنموية بما يمكننا من تحقيق السعادة لهؤلاء الفقراء والباحثين عنها بيننا وهي من حقهم, أو إقامة ورش عمل مستمرة عن طريق الجمعيات الخيرية في مناطق المملكة عامة - وهي الأقدر- ليتحقق ما نأمله وليكون نموذجا يحتذى به, والله ولي التوفيق.