ماليزيا تقدم دروسا للعرب ومصرفيوها يعرفون كيف يمزجون الإسلام بالحداثة
إن بروز ماليزيا كرائد مبتكر في قطاع الصناعة المصرفية يؤكد على وجود تحول في ميزان القوى في العالم الإسلامي. ومنذ عدة قرون، امتدت المعرفة الدينية والثقافية من قلب الخليج إلى أقصى الحدود الإسلامية، عندما تبنت الشعوب التي تحولت إلى اعتناق الإسلام في جنوب وشرق آسيا، الحرف، والتقاليد، والعادات العربية.
ولكن في يومنا هذا، وفي الوقت الذي تأتي فيه السيولة التي تشعل الطفرة من جائزة النفط في الخليج العربي، تبدأ المجتمعات الإسلامية المتطورة على نحو متزايد في البلدان الآسيوية السريعة النمو مثل ماليزيا، بالتأثير في المناطق العربية، وتقدم مثالاً حياً على أن احتضان الاقتصاد العالمي، يمكن أن يتعايش مع الإسلام. إذ إن العاصمة الدولية لماليزيا، كوالا لمبور، مدينة ناطحات السحاب البراقة المترابطة بقطارات مستقبلية معقدة التصميم، تحتشد هذه الأيام بالسياح العرب الذين يحدقون ببناية بيتروناس تاورز
Petronas Towers التي كانت إلى فترة قريبة أطول بناية في العالم.
قبل ستة أعوام، طلب بنك ماليزي من 80 مؤسسة مالية في الخليج العربي مساعدته في بيع سندات شركات تمتثل للمحاذير الإسلامية فيما يتعلق بالفائدة. أحجمت جميعها عن المشاركة، فيما عدا واحدة، وأطلقت على الأداة المالية الجديدة اسم "حرام". وبعد أشهر قليلة فقط من إثبات نجاح الاكتتاب الذي بلغ حجمه 150 مليون دولار، وضع العديد من هؤلاء المتشككين شكوكهم جانباً، وخرجوا بسندات إسلامية مماثلة خاصة بهم.
يقول فايز عزمي، رئيس التمويل العالمي لبرايس ووترهاوس كوبرز Pricewaterhouse Coopers، المتمركز في كوالا لمبور: "تعد ماليزيا الأداة المحفزه للتغيير." ويوضح قائلاً إن الكثير مما يعتبر الآن تقليدياً في قطاع الصناعة، كان موضع اختبار هنا - وغالباً ما حمل ذلك علامات الاعتراض من رجال الدين المحافظين في أماكن مثل السعودية. أما الآن، فلا تعد هذه المبتكرات شائعة فقط في منطقة الخليج، إنما أيضاً أصبحت مصدر عائد مهما لعمالقة التمويل الغربيين الذين يملكون نوافذ مصرفية إسلامية.
أما ماليزيا الآمنة، التي سلمت لغاية الآن من الهجمات الإرهابية التي هزت البلدان المجاورة مثل إندونيسيا، وتايلاند، والفلبين، فهي تفاخر أيضاً بوجود نظام سياسي متحرر نسبياً.
ويروج رئيس وزراء ماليزيا، عبد الله أحمد بدوي، لرؤيته "للإسلام الحضاري"، مشدداً على التنمية الاقتصادية، وإتقان العلوم، واحترام التنوع كقيم أساسية للإيمان.
المنتج النقي
ولا يتفق جميع العلماء المسلمين مع ذلك. إن إحدى أكبر القضايا في الصناعة، هي ما يطلق عليه لقب منتج إسلامي خالص. ففي الشرق الأوسط، تجد الإجابة النهائية عادة لدى مستشاري الشريعة الذين يوظفهم كل بنك إسلامي. ويقدم عدد قليل من كبار رجال الدين المشورة للعشرات من المؤسسات، وغالباً ما تتنافس فيما بينها بخصوص النقاء المذهبي. وفي المقابل، تعزز ماليزيا رؤيتها من خلال منظم مركزي ديني، (مجلس الشريعة الاستشاري) التابع للبنك المركزي، بنك نيجارا Bank Negara.
فهناك المزيد من المنتجات الابتكارية في الطريق. يقول محمد داود بكر رئيس مجلس إدارة مجلس الشريعة الاستشاري، البالغ من العمر 43 عاماً، ويرتدي بدلة غامقة اللون وربطة، ويحمل شهادة الدكتوراة من جامعة سانت أندروز في اسكتلندا: "قد تبدو هذه المصطلحات العلمية مريبة لنا - صناديق التحوط، ـ ويبدو من الغريب بمكان أسلمة هذه المنتجات".
لا يبدو داود نادماً إزاء حقيقة أن العديد من المنتجات المالية الإسلامية المبتكرة، التي تعتمد فنياً على عقود التأجير أو التجارة، قد أصبحت فعلياً غير قابلة للتمييز بينها ونظيرتها التقليدية التي تحركها الفائدة.
ويقول: "إن الأمر برمته يتعلق بالطريق الذي تسلكه إلى تلك الوجهة"، مقارناً بين الربح المالي والجنس. ويوضح قائلاً إن الباحث عن المتعة الجنسية، بإمكانه أن يتزوج أو يمارس الزنى من جهة ـ تماماً كما أن الباحث عن المكسب المالي، يمكنه تحقيق الربح من الصكوك الإسلامية أو السندات التقليدية. ويقول داود وهو يضحك ضحكة خافتة: "تحصل على المتعة في كلتا الحالتين، غير أن إحداهما حلال والأخرى ليست كذلك".
لقد لاقى منهج ماليزيا المتحرر نسبياً، الذي يدافع عنه مجلس داود، الانتقادات من قبل رجال الدين في الشرق الأوسط وباكستان. ويقول داود الذي درس في الكويت ويتحدث اللغة العربية بطلاقة، إنه يشترك مراراً في نقاشات "ساخنة" مع العلماء العرب عندما يسافر إلى الخليج.
ويعني هذا الاختلاف العقائدي المستمر أن معظم الصكوك المعينة بعملة ماليزيا، الرنجيت، ما زالت تعد غير مقبولة في الشرق الأوسط، وكذلك الأمر بالنسبة لبعض ممارسات الإقراض المستخدمة على نطاق واسع من جانب البنوك الماليزية. ويتذمر محمد باكير منصور، عالم التمويل الإسلامي الماليزي، الذي يقدم المشورة إلى كل من بنك إسلام Bank Islam، وتكافل ماليزيا Takaful Malaysia حول الشريعة الإسلامية: "يعاملنا العرب كإخوة صغار، ويعدون أنفسهم أعلى منا ولديهم موقف".
بنك سعودي
كجزء من توجهه نحو التنوع، أصدر بنك نيجارا أيضاً تراخيص مصرفية ماليزية لثلاثة بنوك إسلامية من الخليج العربي، وتشمل بنك الراجحي السعودي، الذي يصف نفسه كأكبر مؤسسة مالية إسلامية في العالم. بالنسبة للراجحي، كان هذا المشروع أول مشروع استثماري له عبر البحار ـ ولم يدخر العملاق السعودي جهداً، حيث أقام شبكة ماليزية تتألف من 12 فرعاً تم بناؤها من الزجاج والرخام، وهناك 38 فرعاً آخر على الطريق. ووضع الراجحي ملصقات إعلانات باللون الأزرق في شتى أرجاء كوالا لمبور، مؤكداً مصداقيته الإسلامية الصرفة، ووعد بتقديم "القيم العادلة" السعودية إلى المؤمنين الماليزيين.
ويجب على الراجحي، منذ أن بدأ عملياته في شهر تشرين الأول (أكتوبر)، أن يتأقلم مع الواقع الماليزي، كما يقول الرئيس التنفيذي لبنك الراجحي في ماليزيا، أحمد رحمن، وهو مواطن باكستاني جاء إلى كوالا لمبور بعد عمله مع بنك ستاندرد شارترد Standard Chartered البريطاني في دبي.
ادخر الزبائن في العمليات السعودية لبنك الراجحي نحو 18 مليار دولار كحسابات جارية دون عوائد، بسبب المخاوف إزاء الفوائد غير الشرعية، حيث لا توجد حسابات توفير savings accounts هناك، حسبما يقول رحمن. وفي ماليزيا، من الواضح أن تلك المنهجية قد لا تنجح في ماليزيا كما أدرك رحمن. إذ يقول: "في نهاية اليوم، ينبغي أن تكون لديك ودائع، مما يعني أن عليك أن تخرج بالمنتجات.. وتقدم عنصراً من العائد".
بعد الكثير من البحث عن الذات، قرر الراجحي أن يقدم حسابات توفير ماليزية خاصة به. برزت تعقيدات مذهبية حول المنتج عندما ناقش مجلس الشريعة المحلي في البنك , يتألف من رجلي دين سعوديين تم نقلهما من المركز الرئيسي واثنين ماليزيين. ومن الناحية الفنية، يأتي العائد على حسابات التوفير في البنوك الإسلامية في ماليزيا من عقود المشاركة في الربح مع البنك. غير أن ذلك يمكن أن يسبب تقلبات كبيرة إذا تكبد البنك خسارة أو حقق أرباحاً أعلى من المتوقع. ولتخفيف المخاطر على مالكي الحسابات، تستخدم البنوك الماليزية احتياطاً ربحياً خاصاً يتيح لها إبقاء هذه الدفعات ثابتة نسبياً.
رغم أن رحمن وخبراء الشريعة في الراجحي لديهم تحفظات مهمة إزاء مثل تلك الترتيبات، إلا أنهم مضوا قدماً رغم ذلك، مشيرين إلى ضرورة الامتثال للأنظمة الماليزية. واحتشد الزبائن على أدوار البنك رداً على ذلك، ويفاخر البنك حالياً بوجود نحو ثمانية آلاف حساب ماليزي. وكان آخر ربح حققته حسابات التوفير، كما تشير شاشات العرض البلازمية في فروع الراجحي، 3.1 في المائة سنوياً على إيداعات شهر واحد، تماثل معدلات الفائدة في قطاع الصناعة.
ويختتم حديثه قائلا: "فيما يتعلق بالمنتجات، فإن السوق أكثر تطوراً هنا عنه في الشرق الأوسط". ويضيف: "هنا، عليك أن تعمل من أجل النقود، وهذا يدفع بالابتكار إلى الظهور".
صحيفة وول ستريت جورنال