الرجل الذي جعل الأسطورة حقيقة

إنه "هنريخ شليمان" عالم الآثار الألماني الذي أصبح أمريكيا، الفقير الذي أصبح ثريا، المغمور الذي أصبح الأكثر شهرة كانت قد فتنته منذ صباه حضارة الإغريق، حتى أنه حفظ ملحمتي "الإلياذة" و"الأوديسة" لهوميروس (عاش قبل أكثر من 3000 عام) وكان على ثقة من وجود "طروادة" الأسطورية، ولد في مدينة شفيرن عام 1822، والده كان قسيسا رقيق الحال، مغرما بالتاريخ القديم. يقول عنه شليمان: (أشد ما كان يحزنني أن أسمع منه أن طروادة قد دمرت عن آخرها تدميرا تاما..) غير أنه، كما جاء في مذكراته، تعهد لنفسه وهو في الثامنة من عمره بأنه سيهب حياته للكشف عنها.
حين بلغ الرابعة عشرة ترك المدرسة وعمل صبيا في متجر صغير في مدينة فورستمبورج، وبعد خمس سنوات سافر إلى هامبورج ليعمل خادما على ظهر باخرة متجهة إلى أمريكا الجنوبية. وكاد يهلك مع بحارتها عندما تعرضت الباخرة للغرق، غير أنهم نجوا بأعجوبة في قارب صغير ظلت الأمواج تتقاذفه لتسع ساعات إلى أن قذفته على الشاطئ الهولندي. هناك عمل في مركز تجاري في أمستردام، ينفق نصف ما يكسبه على شراء الكتب والقراءة والكتابة وتعلم اللغة الهولندية على يد خطاط.
بعد ذلك .. سافر شليمان إلى روسيا وفتح وكالة تجارية في سانت بطرسبورج ولقيّ نجاحا باهرا حتى قرر أن يتقدم لخطبة حبيبة صباه "ميناميكي" في مسقط رأسه وكانت قد بادلته الغرام وهي بعد في الرابعة عشرة من عمرها لكنه علم أنها قد تزوجت قبل ذلك بأيام، فرحل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأثناء بقائه في كاليفورنيا في الرابع من تموز (يوليو) عام 1850، أصبحت كاليفورنيا ولاية أمريكية، فأصبح جميع سكانها مواطنين أمريكيين ومن بينهم هنريخ شليمان.
عاد بعد عامين إلى موسكو، فتح وكالة تسليم مشتروات الجملة، تزوج وانقطع، في وقت فراغه لتعلم اللغة اليونانية القديمة، قرأ جميع الكتب الكلاسيكية ذات العلاقة بحضارة اليونان. ولما قرر التنقيب عن طروادة رفضت زوجته الروسية الذهاب معه فطلقها، وأعلن في الصحف رغبته في الزواج بيونانية ووصف بغاية الدقة كل ما يتطلبه في هذه الزوجة، ثم اختار من بين الصور التي أرسلت إليه واحدة فتزوج صاحبتها وهو في السابعة والأربعين، وسافرت معه إلى تركيا حيث تل "حسارلك" الذي كان يعتقد أن طروادة مدفونة فيه وكان ذلك عام 1870.
بدأ شليمان الحفر في التل تعاونه زوجته وثمانين من العمال قرابة عامين، وكان الزوجان خلالها يقاومان مصاعب جمة، أقلها هبوب العواصف الثلجية التي كانت تطوح بكوخهما وتقذف الأتربة والحصى في وجهيهما وتطفئ ضوء السراج كلما أضاءاه.. يقول شليمان عن ذلك: "لم يكن لدينا ما يدفئنا إلا تحمسنا لعملنا" خاصة وأنه كلما كشف عن آثار مدينة ظنها التي يبحث عنها فيجدها خاوية حتى حفر إلى السابعة فوجدها محترقة فأيقن أنها طروادة التي دارت فيها الحرب الشهيرة فاستمر في التنقيب إلى أن اصطدم ذات يوم فأس أحد العمال بسطح وعاء نحاسي كبير.. وبدهاء ومكر أوقف شليمان العمل وصرف العمال إلى استراحة لم تكن متوقعة ثم نزع الوعاء وأخفاه في لفافة زوجته وهرع إلى الكوخ وأغلقه عليه ثم ألقى على الأرض بمحتويات الوعاء: كانت تسعة آلاف قطعة أثرية من الذهب والفضة. أخذ شليمان يوصل كل قطعة منها بفقرة من فقرات "الإلياذة" كما طفق، بنشوة عارمة، يجلل بها رأس وعنق زوجته وهو يصرخ مثل أرخميدس: وجدتها: ها هي طروادة.. ها .. قصر الملك برياموس، عقد هيلين، درع أخيلوس.. ثم أبرق إلى أصدقائه في أوروبا يعلمهم بذلك، لكن أحدا لم يصدقه، غير أن علماء آخرين هرعوا إلى هناك وأثبتوا صحة ما قاله شليمان.
بذلك يكون شليمان قد بدل مقولة هوميروس: "احذر اليونانيين وإن قدموا لك الهدايا" وكان يقصد خدعة "حصان طروادة" فقد أدخله الطرواديون إلى مدينتهم ولم يكونوا يعلمون أن بداخله جنودا يونانيين تسللوا في الليل منه وفتحوا أسوار طروادة لقومهم فأحرقوها، على العكس من ذلك خرج شليمان من طروادة بأثمن الهدايا من كنوز الآثار فضلا عن مجد خالد فتح به أفقا بلا حدود لعالم من التنقيب بحثا عن تاريخ قديم كان الظن أنه محض أسطورة.
ذاك هو هنريخ شليمان الداهية الألماني، العاشق المهووس بأسطورة طروادة، الذي أدهش العالم كله بحقيقة وجودها وكشف عن كنوزها.. كانت الإلياذة و"الأوديسة" كتابيه اللذين لا يفارقهما، ظل يحفظهما عن ظهر قلب منذ صباه إلى اليوم الذي أغمض فيه عينيه فقد كان رجلا بذاكرة حديدية وذكاء نادر، تروي عنه ابنته أنه سألها وهي طفلة عما كانت تقرأ فأخبرته: إنه كتاب "إيفانهو" لـ "سير وولتر سكوت" فطلب إليها أن تقرأ له بصوت مرتفع بضع كلمات منه ففعلت، فإذا به يتلو عليها البقية صفحة صفحة، إذ كان قد حفظه وهو في التاسعة عشرة من عمره وما زال يذكره وهو في الستين.
أكثر من ذلك فإن شليمان كان يتقن القراءة والكتابة والتحدث بعشر لغات حية كما كان حجة في لغتين قديمتين، إضافة إلى لغته الألمانية فقد استغل سفرياته للتجارة في تعلم لغات البلدان التي يتاجر فيها، وكان يدون أعماله بلغتها، وفي غضون مدة وجيزة تعلم: الهولندية، الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية، البرتغالية، الإيطالية، السويدية، البولندية، الروسية، والعربية، فضلا عن اللاتينية واليونانية القديمتين.
توفي هذا العملاق عام 1890 بعد أن أنهكه الحفر والحر والبرد وهو يواصل تنقيباته عن كنوز أخرى في إيجه وكريت وغيرها في خضم رجع أصداء شهرة واسعة طبقت الآفاق وعداوة أنداده من العلماء لكنه مات بعدما أنجز ما أحب وأخلص لما أحب حتى أنه أعطى أسماء أبطال الإغريق لأبنائه فولده (أجاممنون) وابنته (أندروماك) كما ظل منحازا لطقوس الإغريق وعاداتهم يحسب نفسه أمام الكاهنة "دلفي" وفي معبد "أبولو" كما لو كان واحدا منهم!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي