يوجد في ساحة الإفتاء من يتصدى للفتوى من غير المؤهلين شرعيا
أكد الدكتور عبد الرحمن بن زيد الزنيدي أستاذ الثقافة الإسلامية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أنه من الطبيعي وقوع الخلاف في الفتوى بين المفتين لاختلافهم في التمكن في العلم الشرعي، وامتلاك التصور الصحيح للواقع ومجال الإفتاء والمؤثرات المحيطة بهم، وأكد في حديث لـ "الاقتصادية" أن الإفتاء شأن خطير ويتطلب الإلمام باللغة والقرآن والسنة ومعرفة مقاصد الأحكام والقياس. وللخروج من أزمة تضارب الفتوى قال: علينا ضرورة الارتقاء بفكرنا أولاً وبوضعنا الإفتائي ثانياً إلى متطلبات عصرنا الذي نعيشه بتحولاته الجذرية، وتغيراته الكبيرة, واعترف أنه دخل ساحة الإفتاء غير مؤهلين للفتوى لا شرعياً لفجاجة معارفهم الشرعية، ولا واقعياً لبناء أحكامهم على تصورات اختزالية تحكم على الكل من خلال الجزء, وتطرق لعدة أمور تتعلق بالفتوى وأهميتها لكل مسلم, وغير ذلك من الأمور الأخرى.
بداية فضيلة الدكتور نود منكم توضيح شروط التصدي للفتوى والاجتهاد وأهمية الالتزام بها؟
الفتوى حكم يصل إليه الفقيه باجتهاده في مسألة حادثة من خلال تعرفه على هذا الحكم من هدي الشريعة، معتمداً على فقه مكين بنصوص الشريعة ومقاصدها، وعلى تصور سليم للواقع المشتمل على هذه الحادثة بخلفياته وتطوراته ومؤثراته المتوقعة مستقبلاً.
لهذا كان الإفتاء شأناً خطيراً في الدين، وزادت شروط التصدي للفتوى على شروط الاجتهاد التي من أهمها اللغة والقرآن والسنة وعلومها ومعرفة مقاصد الأحكام والقياس ـ زادت شروط الإفتاء ـ معرفة الواقعة المستفتى عنها ونفسية المستفتي والجماعة التي يعيش فيها، فضلاً عن الورع الذي يحفظ المفتي من أن يزيفه الترغيب والترهيب عن قول الحق.
وماذا عن الاختلاف الذي يحدث بين بعض المفتين وأسباب ذلك من وجهة نظركم؟
شيء طبيعي أن يقع الاختلاف في الفتاوى بين المفتين، لاختلاف هؤلاء المفتين في مدى تمكن كل منهم من العلم الشرعي، وفي امتلاك التصور الصحيح للواقع وبخاصة المجال الذي يقصدون الإفتاء فيه، وقبل ذلك قدراتهم الفكرية المتفاوتة وفي مدى تحرر كل منهم من المؤثرات المحيطة. يضاف إلى ذلك طبيعة النوازل الجديدة طبية أو اقتصادية أو سياسية أو غيرها.
وكيف يمكن التعامل مع النازلة الجديدة وإطلاق الحكم عليها؟
يكون للنازلة المعينة عدد من الأبعاد، وتكثر تحولاتها قبل أن تستقر على صورة يستطيع أن يمسك بها المفتي فضلاً عن خضوع بعضها لتصرفات معينة تحدث فجأة فتقلب الفتوى إلى الضد، فإذا قررت شركة أنها لا تتعامل بالربا فأجاز المستفتى الدخول فيها ثم اقترضت بعض مليارات بربا فإن المفتي سيضطر إلى سحب فتواه السابقة، فضلاً عن مفت آخر.
هل يرى فضيلتكم أنه يوجد في مجال الفتوى غير مؤهلين لها؟
لا ريب أنه قد دخل ساحة الإفتاء غير مؤهلين للفتوى لا شرعياً لفجاجة معارفهم الشرعية، ولا واقعياً لبناء أحكامهم على تصورات اختزالية تحكم على الكل من خلال الجزء، أو أحياناً على تصورات وهمية، مثل هؤلاء سواءً كانوا وعاظاً في الأساس أو كانوا مبتدئين في العلم الشرعي، أو كانوا من المتطفلين عليه ممن لا صلة لهم بالعلم الشرعي أساساً تمثل فتواهم المستعجلة، وأحكامهم غير المؤصلة وأطروحاتهم النشاز بلاء على الدين وإرباكاً للناس وبلية للعقول، وإن كان كثير من الناس ـ بحمد الله ـ يدركون من خلال تاريخ كل منهم، ولحن قوله عدم مصداقيته، ومن ثم عدم السماع له.
ما الموقف الذي يتخذه المستفتي عند الاستفتاء نظرا لكثرة المفتين؟
المستفتي ينبغي أن يختار الأعلم وألأمكن فقهاً فيختار الأتقى والأرجح لدى الناس المشتهر عندهم بالعلم والتقى، وأقصد بالناس هنا طلاب العلم الشرعي والعقلاء والمعروفين بالتدين، لا الشهرة الإعلامية، أو ترويج الصحافة غير البريء، ولا الشهرة المفتعلة عبر فرقعات إفتائية، وخروج على سمات الشريعة واتفاقات علمائها، وتخفيضات في الفتاوى تمييعا للأحكام، فكل هذه لا قيمة لها، وإن هلل لها الفساق، وراغبو الانسلاخ من الدين، بل إن هذا التهليل يؤدي لنتيجة معاكسة أي إلى الحذر منه، والطعن في شخصيته العلمية على قاعدة: قل لي من يصفق لك أقل لك من أنت.
الحلول للخروج من أزمة تضارب الفتاوى:
ما الحلول للخروج من أزمة تضارب الفتوى خصوصا مع ظهور نوازل جديدة بصفة مستمرة؟
قاعدة الحل هي أن نرتقي بفكرنا أولاً وبوضعنا الإفتائي ثانياً إلى متطلب عصرنا الذي نعيشه بتحولاته الجذرية، وتغيراته الكبيرة.
إن السائد ـ وإن لم يكن عاماً للجميع ـ أن الفتوى ما زالت تتعامل مع نوازل العصر ذات الأبعاد المتشابكة على النحو الذي كان يتعامل به العلماء قديماً مع مستجدات عصورهم بطابعها الجزئي والفردي والبسيط.
إن نوازل العصر لم تعد كثيراً جزئياً ناتجاً عن حركة عفوية لفرد، ولكنها مرتبطة بشبكة من العلاقات، فالقضية الطبية مثلاً لها أبعادها الاجتماعية والاقتصادية، والنازلة في الشأن السياسي لها خلفياتها الحضارية، ولها مؤثراتها في الحياة الاجتماعية.
ولم تعد القضية أيضاً تعني فرداً لا تتعداه بل أصبحت تعني ملايين الناس يهرعون ـ مثلاً ـ في ساعة واحدة نحو أبواب البنوك حينما يفتي عالم بجواز معاملة ما طرحها بنك أو شركة.
ولم تعد القضايا بسيطة عفوية. إن كثيراً من القضايا اليوم تبدو أكثر تعقيداً مما يتصور في خلفياتها، والدراسات التي أنتجتها، وأبعادها المتجاوزة مجتمعها المحلي نحو العالمية وغير ذلك. كل هذا يتطلب تطويراً لمصادر الإفتاء بما يتوازى وثقل نوازل العصر الحاضر، حيث يكون الإفتاء جماعياً أكثر مما هو فردي، وأن تشتمل المجامع ولجان الإفتاء على وحدات تخصصية في الاقتصاد، الإعلام، السياسة، الطب.. إلخ, في كل منها مركز دراسات نوعي، ومركز معلومات يتابع تطورات التخصص، ويتصل بالمختصين فيه، والميدانيين في مجاله، ويبني قاعدة معلومات متينة تُزَوّد أسبوعياً, إن لم يكن يومياً، ويبادر إلى امتلاك المعلومة حول كل جديد في ميدانه قبل أن تشيع في الناس ويتعاطوا معه، ويكون أهل الفتوى تبعاً لغيرهم في هذا المجال.
عندما يتحقق مثل هذا النموذج المقترح ويصدر عن المجمع أو اللجنة المشتملة على عدد كاف من الكفاءات ذات الثقل الشعبي فتوى فإن الفتاوى الشاذة للأفراد خارجها لن يكون لها أي وزن أو اعتبار.
ما حكم الأخذ بالأقوال الشاذة في الإفتاء؟
العبرة ليست بمن يبحث عن الشذوذات لمآرب ثقافية أو اجتماعية يهدف منها إلى التمهيد نحو تطرفات خارجة عن الدين سواء نحو الغلو، أو نحو التسيب والانفلات، فهؤلاء وجدوا منذ عهد الصحابة أفراداً وجماعات كالخوارج، وسيظلون ينبعثون؛ ولكنهم سيظلون على الهامش دائماً.
العبرة حقيقة هي بعموم الناس الذين يبحثون عن مسالك حياتية في الاقتصاد والعمل السياسي والحركة الاجتماعية، تجمع لهم بين كونها إسلامية يرضى الله بها عنهم، وعصرية يعيشون بها زمنهم الحضاري بمنجزاته، هؤلاء لن يعيروا تلك الشذوذات إذناً لكنهم يضطرون حينما تتعدد فتاوى الثقات بسبب فرديتها، ونقص التصور الذي بنيت عليه، ما يجعل المقترح السابق متلافياً لهذا الاضطراب ناجعاً من حل الأزمة.