أكثر من 15 عاماً ولم يقف صوت الدقاق
يقول لي أحد الأصدقاء وهو ممن يسكنون في حي راق في شمال الرياض يصل سعر المتر السكني فيه لنحو 1500 ريال، إنه منذ سكن في هذا الحي قبل 15 سنة وصوت الدقاق (معدة ثقيلة تحفر الأرض الصلبة) لم يقف، فما إن ينتهي الحفر في إحدى الأراضي ويهدأ الوضع حتى ينطلق الحفر في أرض مجاورة، وإذا وقف الحفر في الأراضي كان الحفر في الشوارع لتمديد الخدمات.
ويضيف صديقي قائلا: ليت الأمر يتعلق بالأصوات المزعجة التي ترفع من درجة التلوث الصوتي وتحرمنا وأبناءنا النوم لتجعل السكن إثارة بدل أن يكون سكونا، بل إن الأمر أسوأ إذا ألفنا خلال الـ 15 سنة المعدات الثقيلة التي تتنقل بالحي والعمالة متعددة الجنسيات التي تجوب المنطقة باستمرار وتثير المشكلات الأمنية، كما ألفنا الردميات ومخلفات البناء حتى أصبحت المناظر القبيحة هي الأصل الذي اعتدنا عليه.
ويكمل قائلا: إننا لو تجاوزنا كل ذلك ونظرنا إلى الطرق لرأينا دمجا عجيبا في الحركات الثلاث (المشاة، مواقف السيارات، حركة السيارات)، فلا يوجد فصل واضح بين الأرصفة الخاصة بحركة المشاة، والمواقف المخصصة للسيارات والمسارب المحددة لحركة السيارات، مما يجعل السيارات الواقفة أمام المنزل في خطر دائم، كما يجعل الساكن في قمة الخطر عندما يريد الذهاب مشيا إلى المسجد أو إلى أحد المحال التجارية.
ويختتم حديثة قائلا إن الخصوصية معدومة تماما في أحيائنا، فمن قمة الخصوصية في المنزل إلى قمة العمومية مجرد أن تضع رجلك خارج عتبة باب المنزل، نعم يقول إن الحي لا يتكون من متجاورات ثم قطع متجاورة أكبر ثم الحي الذي يجب أن يتصل بالطرق الرئيسية بمنافذ محدودة بحيث لا يدخله إلا قاطنوه أو زائروه، بل إن الحي شبكي منفتح على بعض بطريقة عجيبة ومنفتح على الطرق الرئيسية بأكثر من 20 طريقا رئيسيا وفرعيا، وكأنك في واقع الأمر تعيش في مدينة الرياض عموما لا في حي خاص.
وأود أن أضيف له "توقع غير المتوقع" أيها الصديق، فكل ما تراه في المخطط هو احتمالات، فكم من حديقة مفترضة تحولت لمساكن، وكم من مبنى سكني متوقع تحول إلى مدرسة أو شركة أو سكن عمال عزاب، وكم من محل بسيط تحول إلى بنك يزاحم عملاؤه أصحاب المنازل في مواقفهم الخاصة أمام مساكنهم. وها هو أحد الأصدقاء يقول يوجد بجانب منزلي قطعة أرض سكنية وإذا بها تحتضن برج جوال مرخص أثار القلق في حياتي وحياة أبنائي.
أين المشكلة؟ لماذا لا نطور أحياءنا في الرياض إلا بهذه الطريقة التي قضت على الخصوصية وجعلت السكن إثارة وجعلت من الحي ميتا، نعم فمن يرجع من عناء العمل يريد أن تسكن نفسه وجوارحه، وهذا غير متاح لكثرة الضوضاء، ومَن أراد أن يحيا في الحي سيجده ميتا، فكل أسرة تغلق على نفسها الأبواب بالمفتاح خوفا من حركة الغرباء وخوفا من حركة السيارات التي تنطلق في الطرقات الفرعية وكأنها تنطلق في خط سريع.
المشكلة معروفة وتتمثل في التطوير التقليدي الذي يمر بعدة مراحل، أولها أن يشتري الأرض أحد كبار تجار الأراضي من شخص منحت له هذه الأرض من الدولة، ثم يضارب عليها وهي أرض خام حتى يصل سعر المتر إلى أكثر من 200 ريال "في بعض الأحيان يصل المتر لـ 400 ريال" دون تطوير يذكر، ثم يقوم أحد كبار تجار الأراضي بتطويرها (أسفلت، ماء، كهرباء.. إلخ) وتقطيعها بشكل شبكي إلى قطع تجارية وسكنية كالمعتاد ثم يبيعها في مزاد علني على شكل بلكات ليصل سعر المتر أحيانا إلى أكثر من 700 ريال، ومن ثم يتداولها المواطنون في مضاربات متتالية حتى تستقر الأرض عند مَن يريد إعمارها ليسكن، وبهذه الطريقة يكون التطوير فرديا متقطعا وعلى فترات طويلة، وهنا تتدخل البلديات لاستكمال التطوير من أرصفة وتشجير، وتتدخل الكهرباء للتمديد، والمياه للصيانة، والاتصالات للهاتف، والصرف الصحي وهكذا، تطوير مستمر إلى أن تقوم الساعة.
وما إن يستكمل نحو الـ 70 في المائة من الحي حتى ترى التهالك على المنازل قد ظهر نتيجة ضعف خبرات المواطنين الذين قاموا بتطوير مساكنهم بأنفسهم ليبدأ الناس بالرحيل إلى أحياء أخرى أحدث، وهكذا تزحف الرياض في كل الاتجاهات وتتهالك الأحياء القديمة بدل أن تتعاظم قيمتها، كما هو في الدول المجاورة والمتقدمة، فإلى متى والحال هكذا؟ وما الحل؟
أظن أنه حان الوقت لكي تتعاون أمانة منطقة الرياض مع مجتمع العقاريين لتطوير لوائح جديدة تحد من التطوير الإفرادي المتقطع طويل الأجل وتحث المطورين على تطبيق فلسفة التطوير الشامل، حيث يتم تطوير البنيتين التحتية والعلوية والأبنية دفعة واحدة في مخططات تراعي الأبعاد الاجتماعية، الاقتصادية، الأمنية، والنفسية للساكنين، والبوادر لا شك أنها تبشر بذلك، لكنها بالتأكيد ليست كافية.