في ذكرى نكسة 76

[email protected]

مرت قبل أيام الذكرى المؤلمة لمرور 40 عاما على نكسة أو هزيمة أو نكبة حزيران (يونيو) عام 1967, التي كانت بالفعل زلزالا ضرب الأمة العربية في جذورها, الذي ما زالت توابعه تضرب حتى يومنا هذا. ولوحظ أن هذه الذكرى السيئة لم تمر بهدوء كما جرت العادة في السنوات الماضية, بل حظيت باهتمام عربي واسع تمثل في تغطية إعلامية, خصوصا على شاشات التلفزة العربية الإخبارية, التي لوحظ عليها الإفراط في الحيادية السلبية في استعراض ما جرى في الخامس من حزيران (يونيو) عام 1967. فحين تصر معظم القنوات التلفزيونية العربية على توصيف ما جرى على أنه مجرد (حرب) عربية ـ إسرائيلية وليس عدوانا إسرائيليا على الأمة العربية كلها, فإنها تمارس تزييفا لوقائع وحقائق تاريخية, لأن هناك فرقا شاسعا بين حرب وعدوان. ولهذا كان مهما أن يستخدم في إعلامنا العربي لفظ (عدوان 67م) وليس (حرب 67م) حتى تعرف وتدرك أجيالنا العربية الجديدة, التي يراد تفريغ ذاكرتها الوطنية, أن عدوانية هذا الكيان الصهيوني المغروز في قلب الوطن العربي مستمرة منذ قبل أن يولد وحتى يومنا هذا كما يشاهد يوميا على أرض فلسطين.
لا خلاف على اعتبار أن ما حدث آنذاك وانتهى بنتيجة كارثية على الأمة العربية على الصعيدين العسكري والمعنوي, كان فعلا النكبة الثانية بعد نكبة اغتصاب فلسطين لكون الهزيمة كانت صاعقة, فعسكريا استطاع العدو أن يحسم المعارك في الساعات الأولى وينهي عدوانه خلال ستة أيام بعد أن حقق كامل أهدافه العسكرية, وهي احتلال كامل صحراء سيناء المصرية وثلثي هضبة الجولان السورية الاستراتيجية وما تبقى من أرض فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة, ومعنويا بسط سيطرته التامة على القدس الشرقية, حيث المسجد الأقصى بكل ما تضمنه ذلك من استدعاء لتاريخ وأساطير وأحلام وأوهام توراتية أيقظت حلم إعادة بناء هيكل سليمان على أنقاضه, وكذلك حقق العدو على الصعيد المعنوي أيضا كسر شوكة العرب الذين يفوقونه عدة وعددا بخلق أسطورة أن لديه جيشا لا يقهر هو امتداد لجيوش الرب في خرافات وأساطير عهودهم القديمة البالية.
إلا أن هذه الصورة السوداوية والكئيبة لعدوان 67 كانت من القتامة بحيث توارت خلفها صور مضيئة ومشرفة أكدت أن هذه الأمة العربية بكل ثقلها التاريخي والحضاري لا يمكن أن تنكسر وتهزها هزيمة نهائية وكاملة, فأقصى ما يمكن أن تعاني منه هو خسارة معركة كما في عدوان 67, ودليل ذلك أن الحرب مع هذا العدو استمرت بعد النكسة وحتى يومنا هذا وبعد مرور 40 عاما عليها على الرغم من خدع السلام وزيف اتفاقياته التي لم تستطع أن تنهي المعركة التي ستبقى أزلية ما دام هناك عدوان عليها, مهما استخدمت من أغطية, ومنها غطاء التطبيع.
عندما يوصف ما تعرضنا له في عدوان 67 بأنه نكسة وليس هزيمة كان وصفا صحيحا وحقيقيا لا مجرد توصيف دعائي, فالهزيمة الكاملة ليس فيما تحققه الجيوش المنتصرة على أرض المعركة, بل في نتائجها السياسية والمعنوية حين تقود الهزيمة إلى الاستسلام التام والخضوع لمنطق ومطلب العدو المنتصر عسكريا, كما حدث لليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية, وهو ما لم يحدث لنا نتيجة عدوان 67, التي خسرنا فيها عسكريا خسارة فادحة, فعلى الرغم من الهزيمة العسكرية إلا أننا لم نرفع راية الاستسلام ولم نخضع لإرادة العدو وشروطه ومطالبه, واستطعنا أيضا بعمقنا التاريخي والحضاري أن نستوعب الضربة على حدتها وعنفها, وتمثل ذلك في قمة الخرطوم الشهيرة بعيد العدوان مباشرة, التي عكست قوة الصمود العربي وقدرته على مواجهة الهزيمة بمواقف قوية وسط أجواء هزيمة مريرة. وفي تلك القمة الكبرى حقق العرب بقياداتهم التاريخية آنذاك درجة عالية من التضامن والتكاتف لمواجهة العدوان وآثاره, فأقروا أولا اللاءات الثلاثة الشهيرة: لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بالعدو, وقرروا العمل على إزالة آثار العدوان وتحرير الأرض من خلال الدعم المادي لدول المواجهة, فجاءت تلك القمة ردا قاسيا على صلافة موشي ديان وزير حرب العدو آنذاك, الذي قال متهكما ومنتشيا بعد وقف إطلاق النار إنه جالس قرب الهاتف لتلقي مكالمة استسلام العرب.
لقد كان شيئا جيدا أن تحظى ذكرى ذلك العدوان الإسرائيلي في 67, بكل هذا الاهتمام, وبخاصة العربي وعلى الأخص إعلاميا, فالأجيال العربية الجديدة كانت تريد أن تعرف ماذا حدث, وعلينا أن نقدم لها الصورة متكاملة بجانبيها المظلم والمضيء, وجانبها المظلم هو في النكسة العسكرية والمضيء في قدرة الأمة آنذاك على استيعاب الهزيمة التي ارتدت موجاتها وتكسرت على قوة عمقها الحضاري والتاريخي, وهذا أمر تأكد حين استنهضت الأمة قواها من ركام الهزيمة والنكسة, التي كان يظن أنه لن تقوم لها قائمة بعدها. وكان للتضامن العربي الفاعل, كما بدا في قمة الخرطوم عام 1967 دور بارز ومهم في الاستنهاض الذي قاد إلى حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية ومن ثم شن الجيشان العربيان المصري والسوري هجومهما الكبير فيما عرف بحرب أكتوبر/ رمضان عام 1973, وهي الحرب التي فاجأت العالم, خاصة العدو, الذي اعتقد أن العرب يحتاجون إلى عشرات السنين للنهوض من آثار نكسة 67, وأروع ما في حرب 73 التحريرية أنها كانت حربا عربية شاملة وموحدة عسكريا وسياسيا واقتصاديا, وإلى جانب نتائجها العسكرية الباهرة ومنها تحطيم خط بارليف الحصين على الضفة الشرقية لقناة السويس الذي كان يتفاخر العدو بأنه قوي لدرجة أنه يحتاج إلى قنبلة ذرية لتحطيمه, حولت الأمة العربية من أمة مهزومة إلى القوة السابعة في العالم, كما وصفت في ذلك الوقت, إلا أن ألاعيب السياسة بقيادة هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا آنذاك والصهيوني المعروف, أفقدت العرب قطف ثمار حرب 73.
نعم, لقد كانت نكسة 67م نكبة ثانية, ولكنها كانت اختبارا حقيقيا للأمة العربية كونها أمة تاريخ وحضارة وتراث لا يمكن أن تسقط بسهولة, فقد تعرضت من قبل وطوال تاريخها لكثير من الطامعين والحاقدين والمستعمرين, وكل هؤلاء مروا وزالوا وبقيت أمتنا العربية ثابتة كالنخلة ضاربة جذورها في التاريخ والحاضر والمستقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي