استعادة التكلفة بديلا عن التخصيص
حديثي الأسبوع الماضي عن كون برامج استعادة التكلفة خيار أفضل من التخصيص بالنسبة إلى القطاع الصحي يظهر أن برامج استعادة التكلفة، ورغم تطبيقاتها الناجحة جدا في العديد من الدول المتقدمة، إلا أننا لم نلتفت إليها ولم نعرها أي اهتمام حتى الآن، فنحن دوماً نتحدث عن خيارين فقط، إدارة جهاز معين وفق قواعد العمل الحكومية التقليدية أو التخصيص، بينما خيار استعادة التكلفة حل وسط يحقق معظم أهداف التخصيص، يمكن تبنيه مرحليا إلى أن يحين الوقت الذي نكون فيه مستعدين فعلا لعملية تخصيص حقيقية. فالتخصيص يأتي عادة بعد أن يكون المرفق الحكومي قد قطع شوطا كبيرا في جهود رفع كفاءة الأداء، ويكون التخصيص بهدف تحقيق معدلات كفاءة أعلى، ولا يمكن أن ينجح التخصيص دون بذل جهود حقيقية لرفع كفاءة القطاع العام وإثبات قدرتنا على مواجهة الصعوبات والمعوقات المترتبة على ذلك، باعتبار أن التخصيص يتطلب عادة قرارات جريئة وقاسية لا تحظى بالقبول وتضر بمصالح الكثيرين ويجب أن نثبت أولا أننا مستعدون لاتخاذها. وحيث إن المرافق والاستثمارات الحكومية العشرين المستهدفة ضمن استراتيجية التخصيص لا تمتلك أي منها الوفرة المالية المتاحة لشركة الاتصالات السعودية، فإن تخصيصها وفق الأسلوب نفسه يجعل نجاح ذلك أمرا مستبعدا تماما، وقد يكون حتى مستحيلا. وما لم يتولد وعي حقيقي بأن التخصيص لا يمكن أن يكون خطوة أولى في عملية الإصلاح الإداري والمالي لأي جهاز حكومي، فإن نجاح برنامج التخصيص أمر غير ممكن، ونحن في حاجة إلى مراجعة شاملة للمشروع، والبحث عن حل قد يكون أكثر مناسبة لواقعنا.
هذا الحل يتمثل في برامج استعادة التكلفة الذي يبقى بموجبه الجهاز الحكومي غير مخصص، إنما يدار وفق أساليب تجارية معتمدا على إيراداته الذاتية من خلال ما يتقاضاه من رسوم، بحيث تستعاد تكاليف كل خدمة من خلال رسوم تفرض على المستفيدين من الخدمة. ففي أستراليا، على سبيل المثال، نجد أن جميع الأجهزة التنظيمية كالبنك المركزي، إدارة الرقابة الدوائية، إدارات الرقابة على الغذاء، وهيئات المعلومات، جميعها تخضع لبرامج استعادة تكلفة وتحقق نتائج متميزة في كفاءة الأداء والإنتاجية والاعتماد على التمويل الذاتي. وتمتاز برامج استعادة التكلفة على التخصيص، في أنها أكثر ملاءمة عندما يكون غير متوقع قيام منافسة حقيقية في القطاع المستهدف بالتخصيص بسبب كون طبيعة النشاط تحتم بقاءه احتكارا طبيعيا، كما تمتاز أيضا بأن تكلفة الخدمة في هذه الحالة تكون أقل، نظرا لأن الجهاز الخاضع لبرنامج استعادة التكلفة يحظر عليها تحصيل إيرادات تفوق تكاليفه، بينما في حالة التخصيص فإن الجهاز المخصص ملزم بتحقيق أرباح تبرر الاستثمار الخاص في ذلك النشاط، ما يرفع تكلفة خدماته على المستفيدين.
وحيث إن معظم القطاعات المستهدفة بالتخصيص في السعودية حاليا مثل المياه والصرف الصحي، تحلية المياه المالحة، الخطوط الحديدية، إدارة الطرق، خدمات المطارات، خدمات البريد، صوامع الغلال ومطاحن الدقيق، خدمات الموانئ، وخدمات المدن الصناعية هي في الواقع قطاعات من غير الممكن نشوء منافسة حقيقية فيها في حال تخصيصها وسينشأ بدلا عن ذلك احتكار طبيعي غير صحي. وبما أن المؤسسات العامة كافة التي أنشئت حديثا لتنظيم العديد من الأنشطة، مثل هيئة سوق المال، هيئة الاتصالات، الهيئة العامة للغذاء والدواء، هيئة المدن الصناعية، هيئة الصادرات، وغيرها، تقدم خدمات تستفيد منها فئة يمكن تحديدها بدقة، فإن الحل الأمثل لها جميعا هو تحويلها إلى أجهزة تدار وفق أساليب تجارية خاضعة لبرامج استعادة التكلفة، وفق ضوابط صارمة تضمن رفع فاعليتها وكفاءة أدائها، من خلال الرقابة المشتركة من قبل كل من السلطات الرقابية والمالية في الدولة والجهات المستفيدة من خدماتها.
وتجدر الإشارة إلى أنه من غير الضروري أن تستعاد تكلفة جميع الأنشطة التي يقوم بها جهاز حكومي ما، بل يمكن أن تستمر الدولة في تحمل تكاليف بعض الأنشطة بينما تستعاد تكلفة أنشطة أخرى. على سبيل المثال، استعادة التكلفة قد يكون حلا أمثل للمشكلة القائمة حاليا بين المؤسسة العامة للتعليم الفني ومراكز التدريب الأهلية حول "لائحة التدريب في منشآت التدريب الأهلي" الجديدة، فالمؤسسة تقوم بنشاطين مهمين، الأول التدريب والتعليم من خلال وحدات التدريب التابعة لها التي هي جزء من منظومة النظام التعليمي الحكومي، والآخر الإشراف على مراكز التدريب الأهلية ما يمنح تلك المراكز اعترافا رسميا ببرامجها ويزيد من إقبال المتدربين عليها. وقيام الدولة بتمويل نشاط التدريب والتعليم في المؤسسة أمر محسوم، أما الإشراف على مراكز التدريب الأهلية فهو نشاط تستفيد منه تلك المراكز الهادفة للربح، وبالتالي من الطبيعي جدا فرض رسوم على الخدمات المقدمة لها، إلا أن لها كامل الحق في الاعتراض على ما قد تراه مبالغة في الرسوم المفروضة. حل هذه الإشكالية يتحقق من خلال تحويل نشاط الإشراف على مراكز التدريب الأهلية إلى برنامج استعادة تكلفة، تلزم بموجبه المؤسسة بفرض رسوم تكفي لتغطية تكلفة خدماتها، ويكون للمراكز الأهلية كامل الحق في مراجعة تكاليف تلك الخدمات واقتراح الوسائل التي يمكن بها تخفيض تلك التكلفة ما يقلل من الرسوم المفروضة عليها، بالتالي فرسوم الخدمة تحدد بالتشاور بين الجانبين، وفي حال كون الرسوم المحصلة لا تتناسب مع التكلفة، تعدل الرسوم بما يحقق التوازن المطلوب.