مجلس الأمن الغائب الحاضر
جاء إنشاء هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية على أنقاض (عصبة الأمم) غير الفعّالة عام 1945، من أجل تحقيق هدف أساسي هو حفظ الأمن والسلم الدوليين، وأنيطت هذه المهمة بمجلس الأمن المكون من خمس دول كبرى دائمة العضوية في يدها حق النقض لأي قرار حتى ولو حظي بالإجماع مع عشر دول عادية تنتخب كل سنتين تمثل قارات العالم والتجمعات الإقليمية دون أن يكون لها تأثير سوى بالرفض أو الامتناع عن التصويت والذي لا يؤثر في اتخاذ القرار إذا حظيّ بالأغلبية، كما لا تكون لأصواتها العشرة التي تمثل أغلبية قيمة فيما لو استخدمت أي من الدول دائمة العضوية حق النقض "الفيتو".
هذه المميزات التي أعطيت لهذه الدول الخمس ضمن صلاحيات مجلس الأمن، وتحول الهيئة العامة للأمم المتحدة إلى مجرد ناد للدردشة الدولية تتخذ قرارات لا إلزامية فيها، جعل من مجلس الأمن، خصوصا فيما بعد تفرد الولايات المتحدة بقوتها العظمى الوحيدة عقب سقوط المعسكر الشرقي، مجلس إدارة لشؤون العالم ولكن، وهنا الخطورة، وفق سياسة دولية تقررها الولايات المتحدة ترتكز على ازدواجية معايير واضحة، فبدلا من أن يمار مجلس الأمن مهامه بتجرد تام بتحقيق الأمن والسلم الدوليين لكل دول وشعوب العالم بعدالة وسواسية، وفق المعايير القانونية الدولية المجردة من الأهواء السياسية، أصبح مجرد أداة في يد الولايات المتحدة التي أخذت توجه أعماله بناء على سياساتها هي وما يخدم مصالحها، وتمثل ذلك بوضوح بإقرار نظام المحكمة الدولية لجريمة اغتيال الرئيس الحريري ـ رحمه الله ـ ووفق البند السابع الخطير الذي لا تتخذ القرارات وفقه إلا في حالة تهديد فعلي للأمن والسلم الدوليين، وتمثل أيضا في اهتمام مجلس الأمن الاستثنائي بقضية دارفور السودانية كحالة إنسانية، ولا يخفي على أحد أنها استخدمت مجرد غطاء للتدخل في شؤون السودان، إلى جانب فاعليته "المشهودة!!"، بقضية البرنامج النووي الإيراني، كأمثلة على ذلك، ونلاحظ هنا أن هذه القضايا بالذات لها صلة مباشرة وغير خفية بالسياسة الأمريكية أكثر منها ممارسة مجلس الأمن لدوره الطبيعي.
لا خلاف على أن هذه القضايا الثلاث مما تحتاج إلى معالجة دولية ولكن وفق قانون الشرعية الدولية وليس الرغبات الأمريكية، فاغتيال الرئيس الحريري ـ رحمه الله ـ سواء من ناحية حجم العملية، أو من جانب قيمة الهدف سياسيا محليا وإقليميا وعالميا، يجعل منها جريمة سياسية قصد بها ليس فقط زعزعة أمن لبنان واستقراره، بل خلق أزمة إقليمية، ولهذا كان لا بد من مشاركة دولية في التحقيقات، فجريمة اغتيال شخصية بوزن وقيمة الحريري لا يمكن أن تعامل على أنها جريمة عادية، وقضية دارفور لا شك أنها مأساة إنسانية تفرض على مجلس الأمن التدخل فيها من هذا المنطلق وليس من منطلق سياسي بحت، كما هو حادث حاليا، وكذلك مسألة البرنامج النووي الإيراني الذي لا بد أن يعالج وفق تطبيق مبدأ منع انتشار الأسلحة النووية على الجميع، فكل هذه القضايا مما يحمد لمجلس الأمن تدخله فيها، إلا أن الملاحظ هو الانتقائية في تدخله من ناحية، وتوظيف تدخله لخدمة أهداف سياسية لدولة معينة من ناحية أخرى، فهو في الوقت الذي يرمي بثقله في قضايا، يغيب في قضايا أخرى لا تقل أهمية إن كان إنسانيا أو تهديدا للأمن والسلم الدوليين، ولهذا تبرز تساؤلات عن غيابه مثلا عما يتعرض له الشعب الفلسطيني من عدوان إسرائيلي مستمر ومتصاعد يصل إلى حد ارتكاب الاغتيالات السياسية كاغتيال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أو الشيخ أحمد ياسين، ومحاصرة الشعب الفلسطيني لكونه مارس حق الاختيار الديمقراطي..؟ أو دوره الإنساني فيما يتعرض له الشعب العراقي من مأساة إنسانية فظيعة بسبب احتلال وغزو قامت به الولايات المتحدة عسكريا من خارج الشرعية الدولية وفي تعد صارخ عليها..؟ أو تجاهله وصمته المريب عن البرنامج النووي الإسرائيلي العسكري وعدم انضمام "إسرائيل" لمعاهدة عدم انتشار السلاح النووي بحماية من واشنطن..؟
كل هذه التساؤلات المشروعة والحقيقية تؤكد الشبهات التي تدور حول شرعية وعدالة دور مجلس الأمن بما يملكه من اتخاذ قرارات ملزمة تأكد أنها توجه وتوظف في غير مهامه الأساسية، حسب ميثاق الشرعية الدولية وقوانينها التي تستخدم بانتقائية لا تحتاج لأدلة عليها، ولهذا فإن متابعة تدخلات مجلس الأمن المخترق أمريكيا بالكامل في القضايا العالمية يلاحظ أنها لا تهدف إلى حماية الأمن والسلم الدوليين، بل تؤدي فعلا إلى إذكاء الصراعات وخلق الأزمات لكون المجلس بات خاضعا لمنطق ورغبات القوة العظمى التي باتت تستخدم الميثاق وقوانين الشرعية الدولية حسب أهوائها ورغباتها، وتعطيل دوره عن مباشرة قضايا أخرى للسبب نفسه، وإذا ما استمر مجلس الأمن مهيمنا عليه من دولة واحدة بتوافق مع الدول الأخرى دائمة العضوية، والتي بات واضحا أنها حولت عضويتها الدائمة وامتلاكها لحق النقض إلى وسيلة بيع المواقف وشرائها على حساب الأمن والسلم الدوليين، فسوف تنحرف مهمة مجلس الأمن من حماية الأمن والسلم الدوليين إلى توسيع الصراعات وخلق الأزمات من خلال استخدامه من قبل دولة عظمى وحيدة كالولايات المتحدة لتنفيذ سياساتها هي، لا تطبيق القانون والشرعية الدوليين، وهذا حادث بكل أسف، فصمت مجلس الأمن وتجاهله للغزو والاحتلال الأمريكي للعراق هو الذي فجّر العراق اليوم وحوله إلى مأوى لتفريخ الإرهاب، ومسايرة مجلس الأمن لتهديد إيران المستمر بسبب برنامجها النووي هو الذي يعقد القضية ويصعب الحل، وهذا ما حذر منه الدكتور البرادعي رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، من رغبات مَن سماهم "المجانين الجدد" بإشعال الحروب وقد فعلوا وسيفعلون باسم الشرعية المختطفة لدى واشنطن.