المواطن والسكن.. المشكلة أكبر مما نتصور، وتحتاج إلى حلول شاملة
هذا هو المقال الرابع في سلسلة مقالات كتبتها تباعا خلال الأسابيع الماضية عن وضع السكن والتنمية العقارية في المملكة بعامة، إسهاما في لفت الانتباه وتسليط الضوء على مشكلة ظللنا لاهين عنها سنين طويلة..! وذلك ضمن سياق ما يطرح حاليا من رؤى وتفاعلات أفرزها تصاعد الإحساس بالمشكلة من مختلف الأطراف المعنية بها، بدءا بالحكومة، وانتهاء بآخر مواطن يعيش في سكن مستأجر في أقصى بقعة في المملكة، بعد أن قضينا عقودا نتأمل المشكلة تتفاقم.
ونحن نرى المصدر الوحيد لتوفير السكن، وهو صندوق التنمية العقارية، يختنق من تزاحم المواطنين عليه، حتى بلغ الانتظار عقودا ربما تتجاوز عمر طالب القرض...! وطال انتظارنا حتى تعقدت الأسباب والسبل لتوفير المسكن، فها هي الأرض في المدن الرئيسة، تبلغ تكلفتها حدا لا يمكن للمواطن العادي مواجهته، ليس من قلة أو ضيق في الأراضي، وإنما من جشع وطمع يوقظ في المواطن الشعور بالأسى وهو يرى أن قطعة الأرض التي يدفع فيها دم قلبه، كان يفترض أن يحصل عليها دون مقابل، كحق من حقوقه، هذا فضلا عن تكاليف البناء، التي تصاعدت هي الأخرى، وباعدت بين المواطن وبين أمل العيش في سكن مملوك!.
ورغم شعوري بأنني لم أفرغ كل ما في هامتي من أحاسيس ومشاعر بوطأة المشكلة، وثقلها على الوطن كله، إلا أنني آثرت الرفق بالقارئ، من كثرة التنغيص وإيقاظ المشاعر، مكتفيا بتخليص ما أردت المشاركة به، في رسائل أوجهها في الآتي من الأسطر، لكل من له قلب ويهمه أمر المواطن.
الجهود الحالية قاصرة
هناك أزمة حقيقية في توفير السكن، خصوصا في المدن الرئيسة، ودلائل هذه الأزمة واقعة، وأولها زيادة الطلب على العرض، وتلاشي ما يعرف بالهامش الاحتياطي للعرض، ثم الارتفاع الملحوظ في قيمة التملك والإيجار، ومقابل ذلك لا تزال الجهود الموجهة للتنمية العقارية، سواء من القطاع الخاص والمستثمرين، أو الجهات الحكومية، قاصرة عن أن تبلغ حد الطلب، ولا يوجد حل إلا في تشجيع قيام شركات ضخمة للتمويل العقاري، تتجاوز الأفكار المطروحة حاليا، لديها القدرة على استخراج الأموال المكدسة في البنوك من خزائنها، وتدويرها في إعمار الأرض، فالبنوك، في كل أصقاع الدنيا، هي المصدر الوحيد والرئيس لتمويل كل الأنشطة الاقتصادية، بيد أنه يشل من إسهامها لدينا في مجال التنمية العقارية الحظر المفروض عليها ضمن نظام مراقبة البنوك، على تملك العقار والاستثمار فيه..، إلى جانب عدم إطلاق وتنظيم الرهن العقاري، الأمر الذي أدى إلى تهميش دور البنوك في التنمية الاقتصادية، وفي واحد من أهم أسسها وهو التنمية العقارية..!
يجب التوجه إلى المساكن الاقتصادية
حيث إن أسعار الأراضي بلغت حدا لا قبل للمواطن به، فإنه ينبغي التوجه إلى تخطيط الأحياء بمساحات صغيرة، وتشجيع إنشاء الوحدات المتماسكة، وتحديد أحياء بعينها تكون فيها المساكن (الفيلات) من ثلاثة أدوار، وأحياء أخرى تخطط بشوارع أكبر، وتخصص لإقامة بنايات من أدوار متعددة، يكون الدور الأرضي منها وما حوله مواقف للسيارات، وهذه السمات في الأحياء رأيناها موجودة في بلدان أخرى، وقد أسهمت في توفير مساكن على القطعة الواحدة من الأرض بأعداد أكثر من نظام الفيلات، الذي لا يمكن ملاحقته بالمرافق والخدمات، ويأتي في هذا السياق الإسراع في تعميم وتنفيذ الكود الوطني للبناء، لما يتوقع من إسهامه في خفض التكلفة، والحد من الهدر الاقتصادي المتمثل في انفراد كل مسكن بمواصفاته ومقاساته عن غيره..!
الهدر في الأسلوب الحالي للبناء
نحن الوحيدون بين شعوب العالم، الذين نصر على بناء بيوتنا بأنفسنا، حيث تقول الدراسات إن ما لا يقل عن 90 في المائة من المساكن في المملكة تشيد من قبل أصحابها ذاتيا، وقد خلق ذلك وضعا غريبا لا يماثله أي وضع في مكان آخر، وتعد الشواهد الآتية من سمات هذا الوضع:
- زيادة تكاليف البناء عن المفترض بما لا يقل عن 30 في المائة بسبب المبالغة في المواصفات والمتطلبات، ناهيك عن العشوائية في التنفيذ، فالمصمم ليس له علاقة بالمنفذ، ولم يزر الموقع يوما، أو يتعرف على طبيعته، ولذلك فهو يحتاط في كل شيء، لأنه يعلم أنه ليس له علاقة بالإشراف على التنفيذ، وأحيانا لا يوجد مصمم، حيث يكتفي بعضنا باستعارة مخطط جاره أو صديقه لأنه أعجبه شكل البناء من الخارج، متناسيا أن التصميم يعد مرحلة مهمة في بناء المنزل ترتبط بالوجدان والشعور النفسي بالرضى.
- البدء في التعديل والترميم بعد بضع سنوات من السكن، بسب عدم الرضى، واكتشاف قصوره عن تلبية الاحتياج، أو بسبب عدم العناية باختيار المواد التي يتكون منها المبنى، أو ظهور مواد جديدة يقال إنها حديثة وجيدة حتى لو لم تكن كذلك..! والملاحظ في هذا المشهد، أنه ليس هناك هوية أو استقرار في نمط المساكن وشكلها، ولا سيما مواد التكسية والتشطيب المستخدمة، وأننا كنا ولا نزال بمثابة حقل تجارب لكل شيء..!
- ليس هناك، ممن يعملون في تشييد المنزل، ابتداء من المقاول وانتهاء بآخر عامل فيه، من هو مؤهل وملم بأداء عمله بأسلوب علمي، وأدعو كل من مر بتجربة البناء بنفسه، إلى أن يسأل نفسه ما إذا تأكد أو اطلع على شيء من ذلك..! ومن ثم فليس مستغربا انشغالنا فور السكن بإصلاح الأعطاب والعيوب التي تظهر على مختلف مرافق المبنى.
- التنافر العجيب في الأشكال والألوان الخارجية للمنازل، فليس هناك صفة واحدة مشتركة تجمعها، فهي نماذج وأشكال مستعارة مما حولنا تبعا لهوية المصمم وذوقه، وأحيانا تعليماتنا التي تنصب على تحسين شكل المنزل الخارجي أكثر من الداخل..!
- وقد يسهم في تحسين الصورة القائمة للوضع، وتقليل الهدر الكبير فيه، إصدار تنظيم يلزم المصمم بالإشراف على التنفيذ، إلى جانب تنظيم آخر يفرض التعاقد مع مقاول أو شركة مرخصة، وليس شخصا متسترا عليه تنتهي علاقته ويختفي عنوانه بتسلم آخر دفعة..
الصورة إلى أواسط المدن
يراودني إحساس بأن العودة إلى أواسط المدن، سيكون سكنا مثاليا للمستقبل يسهم في تحجيم الامتداد الأفقي، لعدة أسباب، منها:
- صعوبة ملاحقة تشعب المدن وامتدادها من الأطراف، وما يترتب على ذلك من تكلفة عالية في توفير الخدمات والمرافق، كلما نشأ حي جديد.
- ارتفاع أسعار الأراضي في الأطراف بشكل يفوق أسعارها في قلب المدينة.
- توافر الخدمات والمرافق في وسط المدينة مقارنة بأطرافها.
- سهولة الوصول والتنقل في وسط المدينة أفضل من الأحياء الأخرى التي أصبحت أكثر ازدحاما بسبب كثرة نزوح الناس إليها.
لذلك يجب أن يوجه الاهتمام إلى تعمير أواسط المدن، وحفز المستثمرين على ذلك، على أن يتمحور التوجه حول إنشاء بنايات سكنية من أدوار متعددة، ومحال تجارية، شبيهة بوضع منطقة السوليدير في بيروت، أو تأخذ منها، وإن لم تبلغ مستواها، مع المحافظة على بعض ملامح التراث المستمدة من طبيعة كل مدينة ونمطها العمراني.
والله من وراء القصد