استعادة التكلفة خيار أفضل من تخصيص المستشفيات الحكومية

[email protected]

الأسبوع الماضي تناولت عدم ملاءمة خطة وزارة الصحة الهادفة إلى إعادة هيكلة القطاع الصحي بتخصيص المستشفيات الحكومية, وتأمين الخدمة الصحية للمواطنين من خلال تحمل الوزارة تكلفة إصدار بطاقة تأمين صحي مجانية لكل مواطن، لأن هذا التحول الجذري في أسلوب تقديم الخدمات الصحية يمثل مغامرة تحمل مخاطر كبيرة، بخاصة في ظل فشل تجربة الوزارة في الاعتماد على القطاع الخاص في تأمين الخدمات الصحية، الذي كان من نتيجته تراجعها أخيرا عن برامج تشغيل المستشفيات, واعتماد أسلوب التشغيل الذاتي. ما يستدعي البحث عن حلول بديلة، تحقق رغبة الوزارة في تطوير, وإعادة هيكلة القطاع الصحي، إنما بمخاطر أقل وتمتلك فرصا أفضل للنجاح. وكنت تحدثت الأسبوع الماضي عن النموذج الأسترالي في تقديم الخدمات الصحية، وسأتناول اليوم خيارا آخر، وهو إدارة المستشفيات الحكومية وتشغيلها من خلال برامج استعادة التكلفة.
برامج استعادة التكلفة Cost Recovery أسلوب رائع لإدارة الخدمات الحكومية، وحقق نجاحا هائلا في العديد من الدول المتقدمة مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا، وبموجبها يبقى القطاع الحكومي المقدم للخدمة العامة جهازا حكوميا غير مخصص، لكن يدار ويشغل وفق معايير مماثلة لتلك المطبقة في القطاع الخاص. فبدلا من تخصيص المستشفيات الحكومية مثلاً، وهي خطوة في حال ثبت فشلها يصعب التراجع عنها، وقد يكون مستحيلا ومكلفا جدا، يمكن، عوضا عن ذلك، تحويل المستشفيات الحكومية إلى برامج استعادة تكلفة، التي تقوم فكرتها على مبدأ يقول: إن أي جهاز حكومي يمكن تحديد المستفيدين من خدماته بدقة، ويستطيع فرض رسوم على خدماته يتحملها المستفيد، ما يمكنه من استعادة تكليفها بشكل كامل أو جزئي، بشرط إدارته وتشغيله وفق أساليب تجارية تهدف إلى خفض نفقاته وزيادة إيراداته ورفع كفاءته الإنتاجية.
وأهم خصائص برامج استعادة التكلفة أن الجهاز الحكومي الخاضع لبرنامج استعادة تكلفة يحظر عليه أن يقوم بتحصيل إيرادات تفوق تكاليف خدماته، ويلزم في حال زيادة إيراداته عن مصروفاته أن يقوم بتخفيض رسومه لتغطي مصروفاته بحد أقصى. أيضا، ولضمان رفع كفاءة الجهاز المدار وفق برنامج استعادة تكلفة، فإنه ملزم بأن تتم مراجعة مصروفاته، ليس فقط من قبل الأجهزة الرقابية في الدولة كوزارة المالية وديوان المراقبة العامة على سبيل المثال، وإنما أيضا من قبل الجهات والأشخاص المستفيدين المتحملين الرسوم التي يفرضها مقابل خدماته، ولهذه الجهات كامل الحق في الاعتراض على أي مصروفات يرون أنها غير ضرورية أو مبالغ فيها، واقتراح الوسائل التي يمكن للجهاز من خلالها الحد من تكاليفه, وبالتالي تخفيض رسوم خدماته.
لذا يمكن أن تبدأ وزارة الصحة، وكخطوة أولية، بتحويل جميع المستشفيات التابعة لها إلى برامج استعادة تكلفة، بحيث يكون كل مستشفى أو مجموعة مستشفيات في منطقة إدارية معينة وحدة استعادة تكلفة منفصلة، تدار باستقلالية عن الوزارة وفق ضوابط صارمة تهدف إلى خفض تكاليفها, وتحقيق اعتماد متزايد على إيراداتها الذاتية. على سبيل المثال، وكخطوة أولى، يمكن أن تبدأ هذه المستشفيات بمعالجة غير السعوديين بمقابل، أيضا، وكما هو متبع في المستشفيات الأسترالية الحكومية، أن يتاح للمواطن الخيار في أن يعالج في المستشفى الحكومي "كمريض عام" يحصل على الخدمة مجانا، أو أن يعالج "كمريض خاص" تتحمل شركة التأمين الصحي, أو هو شخصيا, تكاليف علاجه، ما يتيح له الحصول على خدمات متميزة، كتسريع جدولة العمليات الجراحية غير المستعجلة، أو الحصول على غرفة تنويم خاصة ونحو ذلك من خدمات. وفي البداية يُحدد سقف متدن لنسبة التكلفة التي تتم استعادتها من خلال الإيرادات الذاتية للمستشفى، 10 في المائة مثلا، ثم تزاد تدريجيا، ما يضطر المستشفى إلى خفض تكاليفه ورفع إيراداته ليحقق الهدف المطلوب. وبعد ثبات نجاح هذه المرحلة, ومعالجة كل المشكلات التي قد تواجه تطبيقها، يمكن للوزارة، إن رأت مناسبة ذلك، أن تقدم على المرحلة التالية، المتمثلة في إصدار بوليصة تأمين لكل مواطن لا يملك تأمينا صحيا وتصبح المستشفيات الحكومية مطالبة بالتالي باستعادة تكاليف خدماتها بشكل كامل، وتكون الجهات الرقابية في الدولة، بما في ذلك وزارة الصحة، وشركات التأمين، وكل من يستفيد من خدماتها ويتحمل تكاليفها، مطالبة بمراقبة أدائها وضمان تقديم خدماتها بأقل تكلفة وأعلى كفاءة ممكنة.
وبمقارنة هذا الخيار بخيار تخصيص المستشفيات الحكومية، يتضح أنه يمتاز بتأمين الخدمة الصحية للمواطن بتكلفة أقل على الدولة، باعتبار أن هذه المستشفيات لا تستهدف الربح, وإنما فقط استعادة تكاليف خدماتها، وستضطر المستشفيات الخاصة إلى تحسين كفاءة أدائها لتستطيع البقاء في سوق شديدة التنافسية، ما يعني تحسينا شاملا لجودة خدماتنا الصحية دون تعريض قطاعنا الصحي لتجربة تحمل الكثير من المغامرة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي