بيضة الصحافة ودجاجتها

العاملون في مهنة المتاعب، أو صاحبة الجلالة، أو السلطة الرابعة، والمقصود بها جميعا الصحافة أو الإعلام بشكل عام يجدون أنفسهم في حرج من نواح عديدة.. فالصحافي مثلا يسعى إلى الحصول على خبر مميز أو تصريح مهم من أحد المسؤولين في واحد من الأجهزة الحكومية أو حتى الخاصة وهو يقابل بممانعة حينا وبمماطلة حينا آخر، ثم هو إن حصل على بغيته ونشره فقد يلاقي عتبا بحجة أنه لم يقل بالضبط ما قيل له، أو أنه حذف بعضه، وقد يؤنبه أحدهم لأنه لم يبرزه على النحو الذي كان صاحب الخبر أو التصريح أو الموضوع يتصوره.
حرج آخر يلاقيه الصحافيون حين يقابلون أحد المسؤولين، كأن يطلب المسؤول إلى الصحافي المثابرة على نشر كل ما يأتي إليه من المرفق الذي يديره أو يشرف عليه، على أساس أنه مهم وأن يتم إبرازه أيضا.
حرج ثالث يتمثل في رغبة البعض في تغطية كل مناسبة له فيها مشاركة وأن ينشر ما صدر عنه من حديث باهتمام.
وإحراجات كثيرة وكلها تطرح سؤالا محددا هو: هل الصحافة في خدمة المسؤول؟ أم أن المسؤول في خدمة الصحافة؟ سؤال في ظاهره يشبه: أيهما الأول البيضة أم الدجاجة؟
الواقع أن الصحافة منطقة محايدة.. خطابها في الأساس موجه للقراء ورسالتها يتولى ترجمتها العاملون فيها من منطلق خطة تم التوافق عليها وعلى خطوطها الرئيسية، بحيث لا تتحول مواد الصحيفة إلى إعلانات تحريرية ودعائية لهذا المسؤول، أو لذلك المرفق، بل تسعى الصحيفة إلى أن تختار وتسلط الضوء على ما تعتقد أنه جوهري ويصب في اهتمامات المواطنين والقراء، وهي تسلط الضوء وتختار لكي تقوم بالتنوير المعرفي وأيضا لكي تمارس النقد الموضوعي، وإن بشيء من الحرارة كجزء من المقبلات لفتح شهية القراء.
إن أسوأ آفة تتعرض لها الصحافة هو تحولها إلى مناطق محمية لتلميع المسؤول لمجرد أنه مسؤول أو تجميل ما لا يستحق التجميل في أداء مرفق مقصر في مهامه. ومع أن هذا يبدو مفهوما ومألوفا، وأنه من نافلة القول، إلا أن عناء أهل المهنة يؤكد أن بعض المسؤولين أحرص ما يكون على أن يستحوذ على نصيب الأسد حتى لو كان ما من جديد في القول أو المناسبة سوى الوقت فقط!!
الصحافيون يسعدون فقط حين يدعون، ليس لمأدبة، وإنما لكي يخصهم مثلا أحد المسؤولين بتصريح أو خبر أو موضوع يحمل الجديد الذي يبرر نشره، بل إنهم الأحرص على إبرازه متى ما وجدوا فيه ما يشير إلى إنجاز أو إجراء أو عمل حيوي جديد له أهميته.. لكن يسؤوهم أن يتخيل بعض المسؤولين أن صحفهم في انتظار كل ما يصدر عنهم من قول أو إجراء، وإنها يفترض أن تتلقف ذلك على الفور وتتلهف عليه.
ذلكم تصور قد تكون أسبابه كامنة في الاعتقاد أن صحفنا قطاع عام (عليها اليد!!) طالما هي تخضع للسياسة الإعلامية لبلادنا.. وها هنا مصدر سوء الفهم، فصحفنا في الواقع تتميز بامتلاكها حرية إدارة شؤونها التحريرية انطلاقا من كونها مؤسسات استثمارية خاصة معنية بتحقيق الأرباح كما هي معنية بتقديم خطاب ثقافي إعلامي متميز، وبالتالي فإنه يهمها بالدرجة الأولى أن تكون موادها مقروءة على نطاق واسع، لأن معنى ذلك زبائن دائمين وشهرة دائمة تجلب لها من ناحية مزيدا من المبيعات من خلال التوزيع وتجلب إليها في الوقت نفسه المعلنين ومن المصدرين ومصادر تسويقية إعلامية أخرى بتعاظم الاستثمار.. وهكذا فالصحف حريصة على ألا تقوم بالتفريط في مساحات صفحاتها إلا بما تراه يشكل خدمة إعلامية متميزة ويقدم ثقافة وإضافة معرفية نوعية.. وعلى هذا الأساس، أو بسببه يتحرج الصحافيون حين يقابلون بمسؤول يصر على أن ينسى أو يتناسى ذلك أو يغرب عن باله فلا يتفهم هذا الوضع.. علما أن صحفنا تعد من أكرم صحف العالم في مد الجسور وتشعيب علاقاتها بينها وبين مختلف المسؤولين ذوي العلاقة بالشأن العام في مختلف الأجهزة والمرافق، ففي دول العالم، خصوصا دول الغرب المتقدم، يعد فسح مساحة من الصحيفة لمسؤول عن مرفق ضربة حظ، وأما أصحاب القطاع الخاص، وحتى بعض الجهات العامة "فتحجر" مساحاتها في الصحف كما في قنوات التلفزة، لقاء مقابل مادي.
هذا هو الإطار الذي تتحرك فيه الصحافة والصورة التي ترى نفسها فيها ويسرها أن يراها الجميع من خلاله فذلك أجدى للوطن أولا وأخيرا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي